وبالوالدين إحسانا

أبو محمد خليل المغرب

احمرت الشمس ولملمت خيوطها معلنة الرحيل، وسرعان ما هبت ريح قوية هوجاء منذرة بشؤم و نذير لا قبل له بالسكان. وفي ثوان معدودات اكفهرت السماء و تغير أديمها، و امتزج سواد الليل بسواد السحب، لتغرق المنطقة في ليل دامس. ازدادت حدة الريح مما تسبب في عاصفة ممطرة قوية، صاحبتها ومضات البرق مخترقة شقوق البيوت و المنازل، وفجأة دوى هدير الرعد مكسرا صمت الليل. فبدأ المطر يتهاطل بغزارة، وتلته طقطقات البَرَدِ على زجاج النوافذ والسقوف البلاستيكية. وكأنما السماء تصب جام غضبها على بني آدم، لكثرة ذنوبه و آثامه. بدأ الضوء الخافت،أصلا،  يرمش وينطفئ من حين لآخر.

 في هذه اللحظات العصيبة التي يتوجه فيها المرء إلى خالقه من أجل اللطف بعباده، ويرجو منه سبحانه و تعالى أن يجعلها رياحا لوا قحا لا ريحا وغيثا لا مطرا، اقترب الشاب اليافع من أبيه وأومأ إليه قائلا:

أريد نصيبي من ميراث الأجداد.

   توقفت اللقمة الحافية في حلق العجوز، وكاد يغمى عليه لولا رباطة جأشه. ساد الصمت وخرست الطبيعة لبرهة كأنها تسترق السمع. ولم يخرق هذا الصمت الرهيب، سوى صوت المذيع المتقطع المنبعث من مذياع، يشهد على ماض بعيد، يخبر بفاجعة مؤلمة وقعت بين الأصول، حيث أقدم ابن على إزهاق روح والدته لا لشيء، سوى لأنها أحجمت مده بدراهيمات معدودات لشراء قرص أحمر ينشد منه نشوة زائفة و العياذ بالله.

 تمالك الأب أعصابه، وذهبت به الذكريات إلى ماض قريب. و بدت له صورة أبيه، وتنهد تنهيدة تلتها زفرة من أعماق قلبه، و أحس بغصة ومرارة تخنقه، و ندم حيث لا ينفع الندم، وعلم أن الله يمهل لا يهمل، ومقتص لعباده، و تأكد أن من شابه أباه ما ظلم. وعليه أن يكرع من الكأس نفسها التي تجرع منها أبوه آلامه و مكابداته معه.

ذرف دموعا خضبت لحيته التي علاها الشيب، فرد على الابن بعد كل هذا:

آه يا بني، كنت أريد الاستحواذ على ميراث الأجداد، و نفسي لم تطاوعني أن اقتسمه معكم، وأريد أن أحميكم من مال الدنيا ووسخه فهو زائل. ولازلت متمسكا بهذا الأمر.

غضب الابن وهو يسمع ما تفوه به أبوه، فأرغد و أزبد متوعدا بأخذ حقه بأي وسيلة، معتقدا أن أباه يريدها قسمة طيزة. و تحت إلحاح الشاب و تمسكه بحقه، وأمام وعيده و تهديداته، فجأه أبوه بقوله:

   اسمع يا بني لقد ترك الأجداد "" مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ"، إنه إرث ثقيل، إرث قوس ظهري و قصمه.

فازدادت الشاب رعونة وشراسة، و سال لعابه، وهو يسمع حجم الثروة، وتخيل نفسه ،وهو يحوز المال نصيبه، طائرا محلقا في سماء فيينا و لندن و باريس و كبيك و نيويورك و....

   و رغم توسلات الأب من ابنه ليدعه ينعم بالإرث وحده، إلا أن الابن عازم على أخذ حقه و لو باستعمال القوة. و أمام إسرار الابن،أردف الأب قائلا:

  لقد تنازلت لك عن الميراث برمته.

   فانفجرت أسارير الشاب حتى بانت نواجده،  ورقص فرحا لهذا الكرم الطائي من أبيه . ثم أخرج هاتفه الخلوي، وهَمَّ أن يستدعي العدول لتحرير الوصية، فأشر الأب إليه بأن لا يفعل، لأن ميراث الأجداد هما كلمتان لعملة واحدة لا غير.

قال الابن: هات يا أبي.

 فقال الأب :يا محمد الأجداد تركوا " دَعْوَةَ الشَّرِّ " فخذها بالتمام و الكمال.

و في هذه اللحظة هدأت العاصفة وخرج الناس يعدون خسائرهم، بينما الأب خسر الميراث نصفه.