سيّد... والمقهى
(تنويه: مرفق النسخة القديمة للقصة وهي مخطوطة بالآلة الكاتبة أيام زمان من عام 1976 م وكانت أول قصة مكتملة البناء الفني أكتبها ، ومن يومها فقدتها ولم أعثر عليها وقد غابت 43 عاما..ومنذ أيام وحدت من بين أوراق مبعثرة تحت أنقاض بيت الأهل الذي كان مؤلفًا من ثلاثة طوابق في مدينة دير الزور ..)
سيد،
طفل لم يتجاوز عامه الثاني عشر عندما تسلم عمله الجديد كساق للماء في مقهى "عصمان بك" وكان هذا اليوم بالنسبة لسيد نقطة التحول في حياته بل أنه اليوم المنشود والحلم الكبير الذي كان يحلم به، وها هو يلمسه بيديه ويكاد لا يصدق.
انه فرح بعمله الجديد، ويشعر بالنشوة تسرى في جسده الصغير، أنها نشوة الانتصار بوضع الخطوة الأولى في هذا المقهى العريق.
وفي الحقيقة أن سيد كان يتطلع إلى أبعد من كونه ساق للماء وما هذه الوظيفة؟. كان يقول في قرارة نفسه، أنها ليست هدفي وهدفي أكبر من ذلك بكثير والشيء المهم هو أنني أصبحت واحداً من "أهل المقهى" وينطلق سيد مسرعاً عندما يأتيه صوت الساقي الكبير منادياً حاملاً باليد الأولى أبريق الماء والكأس باليد الثانية نحو الطالب العطشان وينظر سيد إلى وجوه الرواد ويتفرس بها بينما هي لا تلقي إليه أي اهتمام يذكر سوى من بعضهم وهم الرواد الأصليين للمقهى حيث كان وجهه مألوفاً لديهم كثيراً والأكثر من ذلك أن سيد كان يعرف تلك الوجوه تماما يحفظ نوعيتها بخياله الواسع.
وعادت الذاكرة الصغيرة به إلى الوراء قبل أربع سنوات عندما أمسك لأول مرة بيديه الغضتين" طبق الكعك" يومها قذف به أبوه إليها وهو يقول له ويذكره بعصبية حادة: لقد كبرت يا سيد ويكفي إلى هذا الحد من التعليم وعليك أن تعول نفسك وإخوتك كثيرون وأنا لا أستطيع اطعامكم كلكم.
حقاً لقد كبرت يا أبي وأصبحت في الصف الثاني وعمري الآن تسع سنوات فقط. أننى أستطيع أن أقرا لك أسماء أفلام السينما وأسماء الحلاقين ومكاتب المحامين والأطباء وماذا تريد أن أقرأ لك أيضاً يا أبي وأذكر مرة يوم أصطحبتني إلى دكان الحلاق وأنا أتذمروأحاول أن أتخلف عن الدخول ، ولكن عندما قرأت لك اسم عيادة الدكتور الذي كان فوق دكان الحلاق ، فرحت لي كثيرا وأعطيتني "فرنكا "واحداً تشجيعا على مقدرتي لقراءة الأسماء عندها دخلت مسرورا ورغبت أن تصحبني دائما إلى الحلاق ولأ قرأ لك ولكنها كانت الأخير ..! وحملت طبق الكعك بين يدي وثوبي الازرق المخطط الذي الذي كنت أرتديه وهو مشقوق من الجانب إلى ما فوق ركبتي وقد كان دائما مبتلاً من الأسفل بالمياه الملوشة من الشوارع ولكن على الرغم من ذلك فقد كان الكعك طيبا وحلوًا مما يجعل الزبائن أقل انتباها إلى وخصوصا من رواد هذا المقهى، كنت أخاف أن ينظروا إلى هيئتي فيمتنعوا عن الشراء ولكن ومع مرور الأيام أصبح كعكي شيئا محبوبا لدى بعضهم كمثل مقهاهم هذا.
ومنذ أربع سنوات وسيد يوطد علاقته التي كان يخفيها بين ضلوعه الضعيفة بالمقهى وبالرواد ...! وأي رواد هؤلاء؟ وهل يختلفون بشيء عن بقية أمثالهم من رواد المقهى؟ لقد كان سيد يطوف بجميع الأسواق من حوانيت وتجمعات البيع والشراء وكذلك بجميع المقاهي المنتشرة بأطراف وزوايا المدينة وعلى امتداد النهر الذي يمر بها يبيع الكعك الطازج ..كان يجهد نفسه حتى يبيع أكبر كمية ممكنة فيجني بذلك ربحا مناسبا من النقود ولكن على الرغم من ذلك فقد كان حلمه الذي يتراقص أمام عينيه دائما ينسيه الربح الذي يفرح به والده فقط فيجعله أكثر إصرارا على تحقيق ما كان يخفيه عن والده وعن الناس: انه حلم مقهى عصمان بك وروادها وأي رواد وأي مقهى؟ ... ولقد اختارها سيد وحده ولم يختر عيرها من مقاهي المدينة .
- تعال أنت يا بياع الكعك.
- نعم يا عم ..كعك بحليب .. بفرنكين الكعكة.
- لا يا بنى لا أريد كعكا.
- إذا ماذا تريد؟
- تعال ضع هذا الطبق هنا ولا تخف عليه.
وأشار الرجل بيده على الطاولة التي كانت أمامه ليضع سيد طبق الكعك فوقها وقد ساعده الرجل بوضع الطبق بيده اليسرى بينما كان يمسك باليمنى انبوبا يضعه في فمه بين الفينة والفينة الأخرى لينفث خلالهما دخانا .
ماذا تريد يا عم؟ سأل سيد وهو لم يدرك بعد ماذا يريد هذا الرجل الجالس بانفراد على شاطي النهر يتطلع به باستمرار.
- اذهب إلى هناك إلى داخل المقهي وأسأل عن العم أبو محمود وقل له أن يأتيني بالجمرة ها .. أفهمت .. يأتيني بالجمرة.
- نعم فهمت جمرة أليس كذلك؟ ...
- وذهب سيد مسرعا بدون تردد ولم يبالي بحال الكعك الذي تركه أمام الرجل ولم تمضي دقائق قليلة حتى عاد سيد نفسه يحمل جمرة كبيرة بملقط وأعطاها للرجل وبدون أذن جلس سيد على كرسي بجانب الطاولة وأخذ يراقب المشهد الجميل.
وبفضول شديد سأل سيد الرجل :
- ما هذا ياعم ؟
- ترجيلة .. !
- وماذا تنفخ في الأنبوب ؟
- تنباك ..!
- وهذه الجمرة؟
- لا حراق التنباك..!
ومضت فترة صمت عذبة وسيد فاغر فمه يراقب النرجيلة وينقل نظره بين فرقعات الماء بخزان النرجيلة وبين الدخان الذي يخرج من فم الرجل، ونسى سيد الكعك ونفسه، حتى أفاق على صوت الرجل يحثه على الذهاب من أجل البيع وفجأة حمل طبقه به وإذا بالرجل يناديه مرة أخرى ويمد له يده.
- هناك.
فتح سيد يده ثم أغلقها على قطعة نقود .. وغاب عن الأنظار.
فرنكين .. وعد الكعك، لم ينقص .. آه ... !!
ومنذ تلك الحادثة أخذ سيد يتقرب شيئا فشيئا من العم أبو محمود ومن النرجيلة ومن طالبيها رواد المقهى حيث كان يختلق الأسباب كي يدخل إلى أبو محمود ليراقب كي يحضّر التباك ويضعه فوق الجمر ثم ينفث منها عدة نفثات حتى يبدأ التباك بالاحتراق وهكذا حتى عرف سيد عن كثب كيف تعد النرجيلة وتقدم إلى الزبائن إلى أن تجرأ يوما وطلب من أبو محمود أن ينفث هو بالنرجيلة لكن أبو محمود منعه قائلا:
- أنت صغير يا سيد والتنباك يحرق صدرك، ولم يدرك سيد معنى كلام أبو محمود وانما فقط امتنع عن الطلب مرة ثانية فقد كان يشعر بإحساس خاص بقربه بشده منه.
لطيب قلب أبو محمود ورقة يديه؟ أم لمظهره المؤنس؟ أنه لا يعرف الآن شيئا
لقد كان أبو محمود رجلا مسنا يكبر والده بسنوات ضعيفا أسمر الوجه يضع على رأسه الرمادي طاقية بيضاء ويلبس على صدره مريولا أزرق اللون له جيب يغطي مساحة كبيرة من الأمام وحين يحمل النرجيلة بيديه وأنبوبها بفمه ينفث الدخان فانه يمشي مشية خاصة تميزه عن بقية العاملين بالمقهى.
ويقول سيد في قرارة نفسه وهو يراقب أبو محمود من بعيد:
- طبعا يا عم أمشى مشيه الديك، أنها من حقك، أن للتنباك طعم خاص ، ولشاربيه
شكل خاص ، ولأبي محمود وضع خاص ، فأمشي يا أبو محمود وافتخر .... !
ويراقب سيد الذين يدخلون الدرجيلة بجلستهم المنفردة والمتميزة، ينتشرون على شاطئ النهر المقابل للمقهى وكأن بهم قد اكتسوا بالهدوء من هدوء جريان النهر وأنسيابه المتهادي ومن بينهم، الرجل الذي لفت نظر سيد لأول مرة إلى الدرجيلة وقد اعتاد عليه كل يوم بنفس المكان وبذات الوقت يقرأ بالجريدة كثيرا وبعد أن ينتهي من قراءتها بطلب كوب الشاي المعتاد حيث يكون سيد بانتظاره ليضع أمامه الكعكة اليومية ثم يذهب بعدها ليأتيه بجمرة جديدة أكثر توهجاً حتى أنه في بعض الأيام يأتي إلى المقهى مبكرا ليحظى بجلب النرجيلة
له بدل من أبو محمود ..!
ويتسأل سيد بحسرة لا يدرك بطفولته قرارتها:
- لماذا كل يوم يقرأ هؤلاء بالجريدة؟ ألا يملوا يوما منها؟ ثم أنه ماذا يجدون فيها؟.
وذات يوم سأل نفس السؤال للرجل صاحب النرجيلة.
- لماذا تنظر بهذه الورقة الكبيرة يا عم.
- أقرأ بها.
- وما اسمها؟
- جريدة...
- جريدة ... وماذا فيها؟
- فيها أخبار الدنيا ....!
وتذكر سيد مرة أخرى والده حين كان يطلب من جميع اخوته أن يسكتوا وهو يلصق رأسه بالمذياع لينصت إلى صوت رجل يحكي بنبرات عالية، وكان هو يسرع ويجلس أمام والده يراقبه ليرى ماذا يجرى بدون أن يفهم مغزي تصرف أبيه على الرغم من أن أبوه لا يعرف من القراءة شيئا ....
ويفرح سيد لفرح والده عندما يقفز هذا إلى أعلى ويقول بحماس: الله أكبر. ويسمح سيد صوت أمه يأتي من بعيد مرددة وراء زوجها: يا الله وتختلط الصور في ذهن سيد الصغير فينقلب صفاؤها إلى شكل ضباب عكر ولزج، تنتقل به إلى اليوم الذي تسلم به مهنته الجديدة كساق للماء الجديدة كساق للماء وودع بذلك مهنته القديمة يبع الكعك والتي لم يتعلم غيرها طوال أربع سنوات فيشعر سيد بغيطه تملا صدره وبثقة كبيرة يقول لنفسه.
لقد نلتها كما أحببتها ورغبتها ، ولكن لن أكتفي بها أبدا ولقد شجعني أبو محمود أليس هو الذي كان يقول لي أن تحضير التباك نفس يا سيد وليس كل إنسان يستطيع تحضيره هكذا .... !
ثم أن هناك أمرا يجب أن تتعلمه يا بني ويشاوره أبو محمود وكأنه يشاور رجلاً بمثل سنه: أن هؤلاء القوم الذين يدخنون النرجيلة هم قوما كرماء وليسوا كسائر الذين يجلسون هنا في المقهى، يجب أن تعرف يا سيد أن من يقدم لهم تنباكا طيبا يعطونه فرنكات طيبه، فتعلم يا سيد تعلم...!
ويفتح سيد فاه حينما تذكر أول لقاء له مع ذاك الرجل وكيف أنه فاتحه بالكرم ولا
زال معه إلى أخر يوم من أيام بيع الكعك.
- أنها مهنة ممتازة وخير ألف مرة من بيع الكعك أنها في مكان واحد ومريحة، والناس هنا يختلفون عما في غير مكان بالإضافة إلى المكسب الكثير، وتبا لك أيتها الشوارع وتبا لك أيتها الحارات، فقد كنت لا أجد فيك غير التعب ووسخ الثياب.
ويمر الزمن وسيد يتنقل بين العطشى وكأنه غيمة بيضاء وصغيرة تحطها الرياح من أرض إلى أرض ومن مدينة إلى مدينة، لتحول الجفاف إلى رطوبة، واليابس إلى أخضر.
ولا أحد هناك يشعر به غير أبو محمود وأول اللذين يجاورون شاطئ النهر، أنه يتحرك وينتقل بين الناس بماء العذب، وفي ساعات الاكتفاء، يسرع سيد ليساعد أبو محمود بعمله. مرة يحرق الفحم ويحضره مرة يرطب التنباك في الكيس الخاص وهكذا كان سيد يركض بفرح وسرور وركضه لا يراه أحد غير أبو محمود، يركض حاملا الأ مل الكبير ولا يعرف متى يأتي اليوم الموعود.
سن الثانية عشر لم يعد كذلك، لقد أخذ يتزايد الثالثة عشر وكذلك معه أبو محمود والناس وشاربوا النرجيلة ومع السادسة عشر يزيد أجر سيد من النقود ويزداد فرحه وأمله باليوم الآت وتزداد صلته بالرواد وبأصحاب النرجيلة وبجرائدهم .
ويوما بعد يوم بدأ سيد يلاحظ على أبيه أنه ينقطع لفترات عن طريقته في سماع المذياع وأن كلمة يا الله أخذ يرددهما هو بدلا من الأم ،ولقد فوجئ سيد ذات يوم بأن أبا محمود أخذ يردد نفس الكلمة يا الله كلما أراد أن يحمل النرجيلة وقد فقد نُظرته بالمشية المعتاد بها. فسأله سيد عن ذلك: فكانت الإجابة بصوت متهدج وسعال ثقيل:
- أنه الكبر ياولدي.
وردد سيد تذات الكلمة بهدوء: أنه الكبر وأنصت إلى صوت يأتيه من الأعماق:
- وكذلك أنت يا سيد .. لقد كبرت، أربع سنوات وأنت ساق للماء
- اه كذلك أربع سنوات؟
أنها تمر بسرعة تمر بسرعة على الناس كلهم ولا شيء يقف في طريقها .. أنها تتقدم بثبات وأبو محمود يغيب عن المقهى أياما ويعود بعدها إلى أن غاب نهائيا عنها وأنزوي وحيدا يتارك مرض الصدر.
وكانت السنة السابعة عشر وسيد أصبح العامل الخاص الذي ويعود بعدها إلى أن غاب نهائياً عنها وانزوى وحيدا يعارك مرض الصدر.
وكانت السنة السابعة عشر وسيد أصبح العامل الخاص الذي يعد ويحضر النرجيلة للزبائن فتقلد باللباس والمشية وبالحركات، شاب صغير بهيئة الرجال المسنين ويجالسهم بكل لباقة وبكل ما تعلمه من أبي محمود.
غاب الرجل مدخن النرجيلة القديم أياما ثم عاد بعدها ولم يطلب شيئا وحتى الجريدة غابت من يدية، فقط جلس قليلا ينظر إلى النهر ثم نهض وانصرف ولكنه لم ينس سيد كانت قطعة من ذات الربع ليرة أطبق عليها سيد بأصابعه وهو ينظر إلى صاحبة بحزن ينسحب ببطء وهدوء.
جاءت أيام لم يأت الى المقهى غير بضع من الزبائن جلسوا متفرقين وذهبوا على وجه السرعة، أعقبتها أياما أخرى أقفل خلالهما المقهى بسبب الأوضاع وكان سيد يسأل ويسمع ولكنه لا يجد مبررا لا قفال المقهى. أنه يراقب ويريد أن يدرك ماذا يحدث للناس.
عجبنا لهم كان يغط بهم المقهى، واليوم يغط بهم الشارع وأحيانا لا يوجد أحد لا هنا ولا هناك، ويرى الجرائد تتناقل بين الناس بكثرة ثم تختفي، ويسمع أصوات المذياع ترتفع حادة ثم تسكت. تماما كما كان يرى من زبائنه في المقهى ومن والده في البيت.
- تبا لهذه الدنيا لقد نسيت القراءة لا أعرف ما يوجد بهذه الجرائد؟
وتعود المقهى إلى سابق عهدها ويعود الناس بأنواعهم، ولكن سيد يترك مجتمعه الذي ألفه إلى مجتمع ثان ويقضي الثلاث سنوات جنديا ليعود بعدها متلهفا وفي ذهنه أشياء اكتسبها بهذه المرحلة وأشياء أخرى كبرت في نفسه وأشياء ثالثة بقيت راسخة لم تزحزحها الأيام قيد شعرة.
رجع إلى المقهى ليتابع السير الذي خطه لنفسه مع النرجيلة ومع طالبيها. لم يكن يعرف سيد الملل، ولكنه مع الأيام يفاجئ بشيء لم يستوضحه في البداية فلم يلقى له بال إلا أن تعاقب الأيام والاشهر أخذت توضح له الصورة أكثر فأكثر، أحس يومها بطعم مرارة تسرى في حلقه كلما أراد أن يحضر نرجيلة لزبون.
لقد بدأت أشكال الناس تتبدل وأوضاعهم تتغير رويدا رويدا ، ورواده الذين تعرف عليهم واعتاد لهم منذ زمن طويل أخذوا ينسحبون واحدا تلو الآخر حتى أصبح المقهى ذاته يشتاق إلى دقيقة لقاء مع أي واحد منهم.
- ولكن هيهات يا زمن. ..! أخذ سيد يردد هذه العبارة كلما فطن إلى طعم المرارة تدب في حلقه.
وجاء يوم أنذرت فيه بلدية المدينة صاحب المقهى بأنها ستجرى أعمال هدم وبناء لتوسيع الشارع من أمام المقهى العريق.
وسيد يراقب الناس والمقهى والأمور تتبدل من أمام ناظريه وطعم المرارة يزداد سريانا في حلقه. لقد هدموا الرواق ذو الاعمدة والأقواس التي كانت تشكل واجهة للمقهى، وحظروا على رواد المقهى الجلوس على شاطئ النهر المقابل...!
تبدلت الاشكال وسيد أخذ ينكمش على نفسه، لا يريد أن يضيع شيئا مما كسبه طوال عمره، والمرارة تزداد كثافة في حلقه.
ومرة حمل سيد النرجيلة بعد أن ظل يداعبها بأنامله وقتا طويلا ويضفي على التنباك طعما خاصا كما تعلم من أبو محمود والجمرة تتلألأ فوق النرجيلة كأنها الماسة في وقت غروب الشمس.
وعندما وصل إلى طالب النرجيلة تجمد في مكانه وشعر بغليان شديد في دمه وغابت الدنيا من أمام عينيه، وعادت الصور تختلط ببعضها البعض وأحس بالمرارة تغرقه حتى رأسه.
أفاق سيد على صوت رفيع يتسم بالنعومة.
- ما بك يا سيد؟ ضع النرجيلة هنا.
- تفضل.
وأنسحب سيد بسرعة واتجه إلى خارج المقهى حيث النهر ونزل إلى شاطئه ينظر إليه وكأنه يريد أن يضمه إلى صدره بقوة شديدة ، وانسابت من عينية دمعة شعر بأن لها حرارة متوهجة، تفوق حرارة الجمرالذي كان يحرق به التنباك وأخذت طريقها إلى النهر وكأنها تعانقه.
راح سيد يكلم نفسه: أنه شاب صغير، بل أنه صغير بمثل سني حين استلمت لأول مرة اعداد النرجيلة هنا ، كل الناس هنا قد تغيروا إلى الوراء ولا جرائد، لا مذياع ولا هدوء لا شاطئ، ولا نهر وأستمر يتساءل:
- أين هؤلاء من أولئك؟ ... أه .. كيف تغيرت الدنيا بهذا الشكل؟
- هل ترجع الدنيا إلى الوراء؟
وضرب سيد بيده فاذا به يحس بالماء فيها فنهل قليلا منه وغسل به وجهه ثم شرب بكفيه ونهض ليعود واقفا في مواجهة المقهى ينظر إليه بعصبية وكأنه يودعها الوداع الأخير.
وبعد قليل سار سيد في الاتجاه الثاني وفي موازاة النهر وخلع مريوله الأزرق وألقى به في النهر ثم تبعه بالطاقية ووقف مستندا إلى سياج الشاطئ ينظر إلى صديقة وهما يبتعدان عنه إلى غير رجعة، أصبحا نقطة سوداء أمام ناظرية ثم كبرت النقطة فجأة وأخذت شكلاً كبيرا بهيئة إنسان قريب منه ولكنه لم يتعرف عليه وسأله:
- إلى أين ستمضي يا سيد؟
- سأمضي .....
وتوقف الكلام في حنجرة سيد ولم يستطع المتابعة ووجد فمه مفتوحا وصورة الشخص تتضائل وتختفي رويدا ثم تغيب في أفق الدنيا.
وعادت الصور مرة أخرى، الرجل الأول، والعم أبو محمود والنرجيلة والجريدة والمذياع تختلط مع بعضها بضابية كثيفة، ثم تهرب من بين يدي سيد إلى الأبد.
.. انتهت ..........
وسوم: العدد 917