النزوح الأخير
لم تكن معاناة محمَّد مقتصرة على مرارة اليتم لفقد والده المبكر فقد كان عليه أن يصبح رجلا قبل الأوان ويكدح لينفق على أسرة مؤلفة من عدة أفراد متمثلا وصية والدته المعتادة
- كن رجلا يا بني لقد أصبحت عمادنا بعد رحيل أبيك .
تُرَبَّيْهِ أمّه شبرا بنذر وما أن يشتد عوده حتى يساق إلى خدمة العَلَم أو قل , دورة عبودية لا مَفَرَّ منها لكل سوري ينفق خلالها زهرة شبابه يتعرض خلالها لشتى أنواع الإذلال والإهانة وليس عبثا أن ترى بعض السوريين استمرؤوا الذل واعتادوا عليه ووجد بينهم من يردد العبارة الشهيرة ( كنا عايشين!) ! ..
تنقضي مدة خدمته فتفرح والدته بتسريحه أو قل إطلاق سراحه على عادة أهل سورية الذين يقيمون الأفراح بهذه المناسبة بينما الأتراك على العكس يحتفلون بذهاب ولدهم إلى الجيش ولا يطيرون من الفرح كما نفعل يوم التسريح وما ذلك إلا لأن نظام العصابة الحاكمة عندنا قد قتل كل روح للوطنية في نفوس الناس …
زغردت أمّه كثيرا يوم رأته عريساً وهي التي أنفقت عمرها من أجل هذه اللحظة التي كانت حلم والده المرحوم … أن يراه أبا وله زوجة وأولاد… ها قد تحقق حلم أبيه وأصبح يُنادَى بأبي محمود… يتابع مسيرة الكفاح معتمدا على نفسه كما علمته والدته ليعول الأسرة التي بدأت تكبر بعد أن أضيف إليها زوجة وأطفال صغار في بلاد تكاد تنعدم فيها فرص العمل بل وينعدم كل شيء إلا الظلم والقهر والاستبداد . يزداد الضغط على السوريين فينفجر بركان الثورة ويخرج الناس ويخرج معهم محمّد مطالبين بالحرية . … يهرب الأمان مع من هرب من القرية التي أصبحت تُمْطَرُ بالقذائف والصواريخ من كل مكان (معسكر الشبيبة ، معسكر القرميد ، معسكر الطلائع هذا عدا مطار تفتناز والفوعة والكازيّة العسكرية بالإضافة إلى مدينة إدلب التي لا تزال حتى هذا الوقت تحت سيطرة قوات النظام )لا تبخل عليهم بما يتوفر لديها من قذائف فوزديكا ، هاون ,صواريخ أو براميل متفجرة وقنابل فراغية أو عنقودية تلقى من الجو ّ حرقا للبلد كي يبقى الأسد … لقد أصبحت البلاد من أقصاها إلى أقصاها جبهةً وميدان حرب فلقد قرر الرئيس تحريرها من الشعب الذي لم يعد يعرف أن يسلك أي درب ,وتبدأ موجات النزوح .. لا يلبث الناس ينزحون من قرية إلى أخرى يظنونها آمنة حتى تُدَمَّرُ فوق رؤوسهم فينتقلون إلى غيرها وهكذا…
تنتهي رحلة النزوح بأبي محمود مع كثيرين غيره إلى مدينة الريحانية التركية المجاورة للحدود على أمل العودة في أقرب وقت .
تطول أيام النزوح فيضيق ذرعاً حين يرى نفسه دون عمل وهو الذي تعلم العصامية والأنفة وأن لا يحتاج لأحد.
ينتقل إلى استانبول مع أسرته بحثا عن عمل يكسبون فيه قوت عيشهم .. تتطاول الأيام والشهور فيشتعل داخله بالحنين إلى الأرض التي عاش على ظهرها وأكل من خيرها ، ودفن تحت ثراها والده الراحل …. لقد قرر ترك استانبول والعودة إلى القرية ..
- لو انتظرت حتى تتضح الأمور فلا زالت المنطقة غير آمنة يا أبا محمود
- لقد مللت الغربة يا ابن عمي سأعود ولو كان في ذلك هلاكي! .. الأخبار تقول أن إدلب قد تحررت وأصبح الجيش بعيدا عن القرية أُحِسُّ بأن أرضنا وديارنا تنادينا ولا بد من تلبية النداء .. لم أستطع التأقلم مع الغربة أرى كل شيء هنا مختلفا الهواء ليس الهواء والماء ليس الماء حتى أشعة الشمس لا تشبه شمس بلادنا أتخيّل أن كل شيء يقول لي لماذا أنت هنا؟!
يعود مع أسرته وفي جنبيه يحتدم شوق عارم … وهناك في القرية يخرج مع ابن عمه ذات مرة لا تَسَعُهُما الفرحة يتفقدان الأرض التي أصبحت بوراً ، غابة من الأعشاب مدة الغياب عنها يطوفان بأشجارها شجرة شجرة لكأنما يبادلانها الفرح والتهاني ..… علاقة حميمة تنشأ بين المزارع وأشجاره فتغدو بالنسبة له أسرةً ثانيةً تماما مثل أفراد أسرته أو بعض أصدقائه يُسَلِّم عليها أحيانا ويحدثها أحيانا… بل ويعرفها بأسماء وعلامات خاصة تميزها عن بعضها … يا للأسى لقد استشهد منها الكثير هي الأخرى، اجتث من فوق الأرض بفعل القذائف ،بعضها غدا بساق واحدة وبعضها بنصف ساق كما سيغدو أبو محمود بعد قليل!... ليت الأرض كانت تنطق إذاً لكانت حذَّرَته وابنَ عمه من الألغام التي زرعها القتلة في أحشائها ولكن هيهات ! يقعان في حقل ألغام تنفجر بهما فيُحملان مضرجين بدمائهما … زراعة الموت هي أكثر أنواع الزراعات رواجاً هنا وهي كل ما يتقنه نظام العصابة الحاكمة في دمشق .. ... تُبْتَرُ ساق أبي محمود وقَدَمُ ابن عمه ولكنه مع ذلك يرفض أن يغادر حتى للعلاج ، لقد فضل أن يعالج على أرضه يستنشق من هوائها فهو له أفضل دواء وفيه خير عافية وشفاء !..
يلتئم جُرحه ويتخذ طَرَفَاً صناعيةً ويحتسب أمره عند الله متأقلماً مع وضعه الجديد … ليتهم يكتفون بترك الناس يجترُّون جراحهم يبدو أنهم لم يرتووا من شرب الدماء بعد … يفاجأُ الناس بالاجتياح الغاشم مرة أخرى يَفِرُّ الناس هائمين على وجوههم تحت المطر والزمهرير .... نزح أبو محمود مع أسرته مرة أخرى لقد أصبح دون بيت هذه المرة فلقد أصبحت القرية خرائب وركاما فكأنما قد زلزلت زلزالها ما هو بيوم القيامة ولكنها الأحقاد القديمة والإنسان حين يبتعد عن هدي الرحمن يصبح أكثر من حيوان وألعن من ألف شيطان… طرق الشمال السوري المكتظة بالنازحين من بيوتهم هربا من الموت الذي يطاردهم به نظام الممانعة المزعوم الذي لبث يكذب به على مدار عقود ...صور لن ينساها العالم أبدا ربما حتى آخر الزمان.. مشاهد قد لا يفهمها من سيأتون في قادم الأيام - الأبواب والنوافذ المحمولة في العربات المتجهة نحو الشمال !! لن يخطر ببالهم ولن يخطر ببال أحد أبداً أن جيشا في العالم يمكن يسرق حتى نوافذ وأبواب بيوت من يفترض أنه وجد لحماية أرواحهم وممتلكاتهم!... يستمر الأمر شهورا بين كَرٍّ وَ فَرٍّ وما أن يشيع خبر استعادة القرية من قبل المجاهدين بمساعدة إخوانهم الأتراك حتى يقرر العودة فورا رغم أن القرية لا زالت غير آمنة … ساقه التي دفنت في ترابها … ذكرياته المتناثرة في كل زاوية وشارع في القرية بل تحت كل شجرة فوق تلك التلّة أو على أطراف ذلك الوادي .. قصص تحتشد في مخيلته … أصدقاؤه الذين تبعثروا في فجاج الأرض منهم قضى ومنهم من لا يدري تحت أي غيمة صار الآن ! …. لم يكن يدري أن مفاجأة أخرى بانتظاره بعد ما يقارب السنة! إنها الألغام من جديد ! .. تصبح السّيارة التي يستقلها مع ابن عمٍّ آخر له كومةً من حديد أثناء مرورها فوق لغم مضاد للدروع مدفون تحت التراب في أحد الطرقات الزراعية من مخلفات جيش النظام المجرم ولك أن تتصور حال من هم بداخلها ! لا يلبث أن يُفْضِي إلى ربه متأثرا بجراحه في أحد المستشفيات التركية بعد الحادث بيومين ملتحقا بساقه التي بُتِرَتْ قبل سنوات فهنا السوريون يموتون بالجملة والتقسيط ..
إنه النزوح الأخير لن يعود أبو محمود إلى قريته بعد اليوم ولن يتسامر مع شجيراته التي أعطاها من تعبه وفكره وقلبه … لن يحتاج لساقه الصناعية بعد اليوم ستعود له ساقه الحقيقية التي سبقته بالشهادة يتمشى بها بين أشجارٍ خير من أشجار بستانه الذي كان يحرثُه بكثير … هناك في جنات ونَهَر ومقعد صدق عند مليك مقتدر … سيجتمع شمله بكل أحبابه و أقربائه وأصحابه الذين سبقوه على هذا الطريق المبارك ، سيرى لهم حيّا كاملا هناك في الجنّة يباركهم الرسول فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ...
وسوم: العدد 923