يا رحيم
في مطار دمشق، وعلى منصة تدقيق الجوازات: أنت موقوف
ولمَ يا سيدي؟
لأنك مطلوب أمنياً
من الطالب؟
مخابرات أمن الدولة
وهل من سبب؟
لا نعرف؛ فنحن مركز حدودي ، فحسب
من وراء الحاجز الزجاجي كان أَبَوَا ناجي يرقبان الحدث الأليم، ولا يستطيعان حراكاً؛ فقد أقعدتهما الدهشة على أرض المطار، فلم يسطعا حراكاً، كما أُلجم لسانهما ؛ فعيَّ نطقا عن أن ينبسا بحرف، فهنا مطار دمشق؛ حيث جهنم التي لا تبقي ولا تذر.
اتصل والد ناجي مع أحد أصدقائه من الضباط علَّه يتوسط في الأمر؛ لأنه يعلم أن المخابرات لو أمسكت بابنه ذي السبعة عشر عاما؛ فسيدخل في مصير مجهول
ألو ، أبو عماد ، كيف حالك؟
الحمد لله
وبدأ أبو ناجي ينتحب؟
ما لك؟
أنا في المطار
وهل ستسافر؟
بل ابني ناجي
طيب، هل من أمور جمركية أعاقته؟
بل أمنية
اشرح لي
لا نعرف شيئاً
طيب، أنا سأتواصل مع مدير أمن المطار، وأستفسر منه عن السبب
~~~~~~~~~~~
وبُعيد نصف ساعة جاء أحد العسكر، وطلب من الأب أن يحضر لكي يستقبل مكالمة هاتفية
ألو
تفضل أبا عماد
لقد حولت لكم الأمر ؛ فبدل أن يقتادوه مخفورا من المطار إلى قسم أمن الدولة؛ وهذا أمر خطير جداً ...جداً، فقد صار مطلوبا منكم أن تراجعوا القسم (99) بأنفسكم؛ ليحققوا معه
عاجز عن شكرك
لكنْ... قبيل ذهابكم إلي مرَّا عليَّ في مكتبي في قسم كفر سوسة
حاضر
~~~~~~~~~~
اسمع يا أبا ناجي: لقد حولتكم للذهاب بأرجلكم ، ولكنْ إياكم أن تذهبوا
ولمَ، يا سيدي؟!
لأنني اطلعت على ملفه ؛ فوجدت فيه مخاطر كثيرة محدقة به، ولو أمسكوه فإن في ذلكم مجازفة كبرى
وما هي مشكلته؟
نشاطه الديني
وهل الدين مشكلة؟
نعم، في بلدنا ، نعم
حدد لنا
إنه يصلي
وهل الصلاة جريمة؟
لا ، ولكن له نشاطا دينيا
كيف؟
كان يؤمُّ الطلاب في مسيجد المدرسة
وهل الإمامة مشكلة؟
وكان يدعو بُعيد الصلاة
وما للدعاء؟
كان من دعائه أن يهلك الله الظالمين
القرآن مليء بالأدعية على الظالمين
ولكنهم ربما فسروا أن الدعاء موجه إليهم
يكاد المريب يقول خذوني
ماذا
لا شيء
وثمة تقرير آخر يقول إنه كان يحذر الطلاب من الانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي
وما جرم ذلكم؟
تعلم يا أبا ناجي أن دين الدولة هو الحزب
ولكن الدستور يقول: "دين الدولة الإسلام"؟!
هذا حبر على ورق يا صديقي، ولو أمسكوا به لفرموه كفتة ، أو كباب؛ لأنك تعلم أن المراكز الأمنية عندنا مسالخ بشرية
وما تنصح؟
أن تفروا من البلد
إلى أين
دبر راسك
~~~~~~~~~
في مركز شتورة (على الحدود السورية اللبنانية) كان ناجي يناجي ربه بالدعاء الذي طفق يردد محمد – صلى الله عليه وسلم- وهو خارج من بيته بمكة يوم هاجر إلى المدينة: "وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سداً؛ فأغشيناهم؛ فهم لا يبصرون"
كان ضابط الحدود البرية ينظر مرة في جواز السفر واثنتين إلى وجه الفتى المصفرِّ؛ وقد ساورته شكوك كثيرة بأمر هذا الحدث. اضطرمت الأفكار في خلد هذا الضابط، وكم مرة فكر بأن يحوله إلى القسم (99)؛ لكي يحققوا في أمره المريب... والطفل رابط الجأش، ولكن الوجل كان يعتصر فؤاده.
ختم الضابط له ختم الخروج، ونفث سحائب من غليونه غطت سماء الغرفة، وهو يشتم الذات الإلهية: "لَكَم حاولت أن اصطادك، ولكنني لم أجد منفذاً؛ فأنت سمكة مكسوة بالدهن، وقد أفلتَّ من سنارتي... أنا متأكد أنك من عصابة المصلين، وليس ثمة دليل... انقلع من وجهي يا الوسخة،، ورمى له جواز السفر على الأرض.
التقطه الصبي، وهو يكبِّر في سره، ويدعو على كل الطائفة النصيرية التي أنجبت مثل هؤلاء للوطن.
كانت الرحلة من نقطة الحدود إلى مطار بيروت محفوفة بالمخاطر؛ فهي مزروعة بالنقاط التفتيشية التي يخفرها جيش الردع السوري الذي دخل لبنان ليعيث فيها فسادا؛ ومن ضمن مهماته القبض على الفتيان الهاربين من جحيم نظام البعث
لقد كرر الفتى مسلسل ذلك الدعاء، وفي كل مرة يشعر أن حياة جديدة قد كُتبت له.
وبُعيد أن اجتاز جميع حواجز الردع السورية في مطار بيروت، وعند دخوله إلى قاعة الانتظار قُبيل الصعود إلى الطائرة، خر الطفل ساجدا~ باكيا ~ شاكرا~~
اعتور الفضول نفس أحد الجالسين على كراسي الانتظار، فسأله قائلاً: ما سجودك؟
أحمد ربي أني قد فررت من بلدي
قهقه الرجل ، وحكَّ لحيته البيضاء، ثم نفث دخان سيجارته، وقد علت وجهه تعابير التساؤل المحيرة : لم أرَ في حياتي شخصا يقبِّل الأرض وهو خارج من بلده ، إنمَّا العكس صحيح؟!
نعم، يا سيدي، إلاَّ في سوريا؛ فالأمور جِدُّ معكوسة!
وزاد فضول العجوز الشايب الذي عركته الحياة حنكة؛ ففغر فاه بسؤال آخر: ولمَ اخترن المغرب مهربا؟
لو أعلم أن بعد المغرب حداً عربيا، لتجاوزته؛ فانا أريد أن أبعد عن دولة المخابرات آلاف الأميال
تمتم قائلاً في سره: عجيب~ غريب، ثم فتح العجوز كتابه الذي يتسلى به لحين صعود الطائرة المغربية، وراح يغرق في تفاصيل الرواية؛ بل هما روايتان: رواية الكتاب الأسطورية التي يقرأ، والرواية الأسطورية التي قرأها في وجه الفتى بما فيها من عجائبية ~ وغرائبية.
~~
وبعد أكثر من أربعين سنة ؛ يتيهون في الأرض، سأله صديق له: هل ما زلت تحنُّ إلى حلب؟
فطفق يردِّد بيت أبي تمَّام :
كم منزلٍ في الأرضِ يعشقُهُ الفَتَى وحنينُهُ أبداً لأوِّلِ منــــــــــــزلِ
ولكنه الرحيم الذي كتب لي حياة جديدة يوم أن انفصلت الروح عن الجسد؛ فالجسد أنا والروح حلب؛ ونحن السوريين لنا حياة برزخية في الدنيا، على خلاف جميع صنوف البشر....
وسوم: العدد 982