مع الركب
بعد مشوارها الليلي الطويل، وتغيير للعباءة فوق الجلباب مرتين، وعبر شوارع فيها نقاط عمياء كثيرة للمداخل والأرصفة والحواكير، وصلت النزل. كان نزلا، والآن هو مجرد غرف صغيرة نظيفة ومجللة.
فتحت الغرفة الجانبية، التي يقف أمامها الياسمين الفواح، ودخلت تتحسس موضع الإضاءة، المفتاح.
تأكدت من الستائر والغلالات التي خلفها. ليس أمامها وقت كثير، وعليها أن تنتهي بسرعة، تستلم وتودع التقارير وتخرج. بحثت عن الحقيبة، في الخزانة الصغيرة البنية بجوار السرير، واستخرجت المفتاح الذي لديها، وفتحته به. سيكون عليها أن تستبدل العباءتين بأخريين موجودتين في الخزانة، إضافة للتي فوقها.
حالما همّت بانتزاع العباءة عنها، سمعت صوت ضجة في الساحة الخارجية، وصوت أقدام ثقيلة، جماعية، تركض مقتربة. هرعت وأطفأت الضوء وأحكمت اغلاق الباب بالرتاجين.
ثم نداءات في مكبر صوت، بعامية فلسطينية متقنة، تنادي عليها، بالاسم، أن تسلّم نفسها. للأسف تمكنوا من تتبعها، رغم كل ما بذلته. لم تكن واثقة من المحاصِر، فكلهم الآن يستعملون العربية، والذي ينتظرها هو نفسه، اعتقالا فتحقيقاً أو استشهادا. وما هي الا برهة، حتى انفجرت قنبلة صوت خلف زجاج النافذة والستارة والغلالة، واشتعلت نار في الغلالة أضاءت المكان.
لن تفتح لهم ولن تسلّم نفسها.
استخرجت الأوراق الشفّافة من جيب الحقيبة ومضغتها بجهد وتمزيق ثم ابتلعتها بسرعة. ما من خوف ولا قلق. نهاية مقفلة، عند النقطة الميتة التي منحتها لها أختها المسؤولة قبل أن تستشهد، أو التحاق بها.
تعالت صليات الرصاص المختلطة، كلاشينات وأم 16.
إنّها في الحقيقة مسرورة، فرحة على نحو عجيب. لم تجرب هذا الفرح من قبل. انتهى الأمر، ولم يعد صراع تخفّ أو أسرار. نجحت طوال سنوات في ذلك، والآن الثبات، المواجهة بين معنيي الخلق المتصارعين. لم يكن لدى كثير من الأنبياء أسرار وهم يُحاصَرون أو يلاحقون. ولا كثرة، جماهير، أو قلة. هناك مَن قُطِع رأسه وهناك من لا يأتي ربه يوم القيامة إلا وحده، لم يؤمن به أحد.
لقد التحقت بالركب، آسيا ومريم وفاطمة ومسؤولتها.
استقبلت القبلة وشرعت في الصلاة. هي إزاء اللحظة الأخيرة كما تجزم وعليها أن تستقبلها أفضل استقبال. انها صلاة مختلفة عمّا عهدته. لن تخرج النسمة الكائنة فيها إلا بتوحيد مفتوح الذراعين. بطء لذيذ وتذوّق مختلف لمعنى الكلمات، التي تصبح هي ذاتها تسبيحات الخلق للخالق. من أول الفاتحة، بتأنٍ في التلاوة، إلى بضع عشرة سورة من القصار التي تحفظها. عندما تنتهي، تعيد تلاوة السور من جديد. ليست مستعجلة وما في الخارج ليس من شأنها.
أصوات لا تخل ولا تشتت، بالعكس تزيد التركيز الذي هو بين الخشوع والمواجهة/ الرفض والثبات. أدركت كيف يمكن لمصلٍ مختِلٍ أن ينفق الليل كلّه في ركعة أو ركعتين، مع أنها أوترت من قبل وتهجدت. وعتمة ما في الجفنين المغلقين، ليست ظلاما أو سوادا، إنما اتحاد/ انفصال مريح يغيب فيه الإحساس عن الشعور، لكن الجسد يُستدعى، فيستجيب، عند التكبير..
حين يتحد صوتها مع التلاوة مع الاصغاء مع الدلالة، يتعالى قسيم في النفس. الغنّة تحبها بخاصة، والمدّ تأخذ منه أكثر المباح.
الرصاص وقنابل الصوت وتلك الأضواء التي تتغلغل جفنيها، من الحريق، ببقع مضيئة وما من ضوء، صار كله خلفية لها.
وبقيت كذلك، حتى انفجرت قنبلة غاز خلفها، صار الطرفان يستعملانها عند الاقتحام، وهي لم تصل إلى الركوع بعد.
وسوم: العدد 1030