الأنا والأنا الأخرى
ذهب إلى سريره وفي نيته أنه يجب أن يخلد إلى النوم طلبا للراحة. فهو منذ أيام عديدة وهو يشعر بأنه غير قادر على الاستمرار بهذا الكم الهائل من الأرق، إنه يحس بأن رأسه يكاد ينفجر، آلاف من الصور والأحاسيس والأفكار والأحداث تغمر ذهنه، أينما ولى بوجهه يتذكر صورتها. أحيانا تجده يحدث نفسه يحدث ذلك الآخر فيه، فيعاتبه وينهل عليه بالكثير من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا.
لربما كان الخطأ منه هو نفسه؟ أو ربما هذا ما في وسع القدر. تحدث النتائج أحيانا بدون أسباب تذكر.
أعرف أنه لن يؤمن بمسألة القدر هذه وخاصة في هذا السياق بالذات، وأعلم أنه حتى وإن توجه إلى العلم لن يلق إجابة وافية عن هذا الرابط الذي صار خيطا متشظيا. فظاهرة الحب هذه سر مكنون لا يعرفه إلا من علق به، ولا يمكن أن يصوره صورة دقيقة حتى من عاشه بأتراحه وأفراحه، فما حب قيس إلى صور تشبيهية واستعارات تمثيلية.
لحظة بدأ سيل من الهذيان يسمع ويتردد في الفضاء الضيق من الغرفة وهو يتقلب في فراشه وكأنه يريد أن يقدم تعريفا علميا للحب:
"حدث انفعالي يربط بين كيانين يتميز بخاصية الديمومة والاستمرار لزمن ما، قد ينقطع، قد يصل إلى مفترق الطرق".
انقلب على بطنه كالمعتاد، محاولا استلاب الخيط الرفيع الذي يأخذه إلى الأحلام التي صارت كوابيسه هذه الأيام دون جدوى. فعلم للتو أنه ينادي على المستحيل.
قام منزعجا ليجلس على كرسي المكتب الذي غلف بغلاف أزرق قدمته له حبيبته ذات ليلة مليئة بالشهوة والالتحام. وصل الحاسوب بالشاحن الكهربائي وضغط على زر التشغيل، وقبل أن يتأكد من أن الحاسوب موصول بالشبكة العنكبوتية، راحت ذاكرته ترصد الأجزاء المؤثتة للمكتب، لقد تذكر اللحظة التي قدمت له رسمة الفراشة التي تشكل عالمين: عالم الزهور الصغيرة التي يعشقها وعالم الخطوط والأشكال الهندسية التي تستهويها، الفنجان الذهبي، الفراشة المنحوتة من الجبس، القلب الذي يتراقصان فيه معا بجسد عار، الشجرة القرمزية، البومة التي اقتنتها له من المدينة العثيقة، الطربوش الجبلي الذي أخذته له ذات يوم سعيد، سرواله الداخلي الذي يقيه من برد الجبال وهو يقوم بمهمته التعليمية... الساعة التي يضبط بها أوقاته، العطر المصنوع بأناملها والدب صاحب النظرة البريئة والنظارات التي يرى بها سبيله.
تبث نفسه، وقبل أن يواصل البحث عن معنى لمفترق الطرق التي قام لأجلها من سريره، تساءل مع نفسه عدة أسئلة وكأنه يريد أن يصل إلى نتيجة ما؛ لماذا كان يجب أن نفترق؟ وهل معنى مفترق الطرق أن يأخذ كل واحد منا جسده بعيدا عن الآخر، ماذا عن الروح التي تآلفت؟ ماذا عن هذا الشعور الذي لطالما حاولت طرده إلا ويعود مرارا. إذا كان هذا ما يسمى حبا ! أي نعم؛ أحببتها من أعماق قلبي لقد عشت معها لحظات جميلة ورائقة لقد كانت فعلا توأم روحي، لقد كنت أستطيع تمييز أخفى الملامح فيها حتى وإن تظاهرت بالعكس فكيف نسمي هذا مفترق الطرق؟ وكيف يمتد الزمن ليتوقف فجأة؟ وكيف لي أن أتخلى عن صورتها التي اعتدتها لليال طويلة وهي نائمة نوم الطفلة البريئة؟
هو يعلم أن مفترق الطرق حتى وإن حصلت بالفعل فإنها تبقى مجرد صورة مادية للطريق الذي يوصلنا إلى مكان من الأمكنة؛ دون أن يعني عنده انقطاع لتلك الصلة التي ربطها بها، يعلم جيدا أنه ما يزال يكن لها من أعماق روحه كل المودة والاحترام والإخلاص، يعرف أنه واقع في الحب. غير أن الهوس والهذيان يكادان يوديان به إلى الجنون، إنه يشعر أحيانا بأنه قد أصيب بداء البرانويا، يتساءل مرة اخرى دون أن يعير حاسوبه الذي اشدت حرارته أي اهتمام:
هل يمكن للإنسان أن يصير جسدا بدون روح؟ أيمكن أن أتحول أنا ذاتي الذي أحمل روحها إلى جسد خال مني ومنها معا؟
فكر مليا، فإذا به يجد نفسه خال من النتيجة التي قام لأجلها، لقد وجد أن القضية ليست منطقية بالقدر الذي كان يدعي وهو في حالة لا يحسد عليها. أغلق الحاسوب من جديد، أخذ غليونه، ملأه بالقنب الهندي، تناول عدة جرعات، وعاد إلى سريرها والتحف بلحافها الذي اقتنته له ذات ليال باردة، وبمجرد أن استوى في مكانه حتى سمع صياح الديك وهو يعوي في بيت الجيران، نهره وعاد إلى ملء الغليون من جديد.
وسوم: العدد 1057