أزهار بلا ألوان...
لطفي بن إبراهيم حتيرة
كنت وحدي وأنا وحدي وإن كنت دائما وحدي لم أعد أدري أين أمضي؟.. ولا إلى أين أمضي؟.. سماء كالصحراء قاحلة..جرداء.. كثيب من الرّمل هي.. بل كثبان وكثبان.. ظلام بدون ليل وليل بلا نجوم .. بلا أقمار.. امتلأت الدنيا غبارا فهي مغبرّة ومحمرّة.. الطرقات تغطّت.. المباني تشوّهت .. تقلّصت وتمطّت.. والأشجار تمرّغت فتشعّثت فتوجّعت و تأوّهت ثم تولّهت.. السيّارات اختفت تحت الغبار حتّى بدت ككتل طينيّة وهياكل محمولة على عجلات مطعونة خفيّة.. بقايا سنين الموت والفناء.. سنين القحط والهراء والخبز اليابس وقنديل أمّ هاشم وفنار أمّ عبّاس وجرعة ماء والنوم على الحصير بلا لحاف ولا غطاء.. الوجوم في كلّ مكان بل لم يعد هناك مكان ولا زمان.. صورة كالحة.. بالية و رسم موحل سيّء وغريب.. أنت الغريب المتعب البعيد.. هموم تراكبت وتراكمت وتزاحمت وتصادمت فأمطرت نفايات.. بدايات ونهايات.. دوائر و مكعّبات.. قصص تروى وحكايات..
وحدي أمشي..
وحدي أمضي..
وحدي أسعى بلا معالم ولا علامات.. لا معاني ولا كلمات.. عبّاس مات وعدنان.. البّاي والسلطان والرّئيس والزّعيم عمران.. حمامة طارت.. علت وعلت ثمّ هوت.. ثمّ طارت ثمّ اختفت.. أين اختفت وأين انتهت.. سيّارة قادمة.. أنوارها كابية.. عيونها متعبة ناعسة.. الطريق واهية فهي واهية نسخة واحدة.. لوحة متشابهة ضائعة الألوان.. مضيّعة العنوان..
لم أنا هنا؟..
لم كنت هنا؟..
أبحث عن الطريق.. أبحث عن الرّفيق.. عن الصديق.. عن بسمة لاحت لي ساعة الغروب.. عن دمعة قد تسقط على صدري حين الشروق.. عن يد قد تمتدّ لغريق.. أشتهي قطرة ماء تبلّ وجهي وتمسح ملامح حزني وتفسّخ خطوط وجعي.. أشتهي قطرة ماء تطفئ لهيب عشقي وتسقي سنابل وجدي.. أشتهي قمرا حولي ينير دربي.. ينزل عميقا في غياهب بئري.. أشتهي شمسا وزهرا وفراشا ونخلا ونهرا يجري أو زورقا في البحر تخفق النسمات شراعه والبحر هيّنا ليّنا وأنا وحدي.. أنا الملاّح.. أنا الربّان وأنا السند باد والسند باد متعب مترهّل الأحلام.. البحر أمامي و البحر ورائي وليس لي مجداف ولا أعرف مرساة و لا أدري أين بلادي ولا عيد ميلادي. فوقي السماء و العلاء فالعلى .. تحتي العمق و الظلام فالفناء..
أسمع صوتا يناديني.. أسمع لحنا يناجيني و يناغيني..
أغوص في الطّريق كما يغوص عود السدر في الرّماد.. أغرق في العدم.. يركبني الوهم و يشلّني الندم.. أتلاشى.. أضمحلّ.. كيف أنا..؟ كيف أنت..؟
تراني إذا وقفت الآن أمام المرآة آتعرفني نفسي؟!..
أراها تنكرني.. تتنكّرلي وتمكرني وتمكر بي.. رأيت شبحا فأنكرته وربّما رآني كذلك فأنكرني.. تجاهلته وتجاهلني.. إقتربت منه فإقترب منّي وقفت فتوقّف.. شكّ راودني.. يراودني.. أم توهّمت أمرا فلبّس عليّ.. شبّه إليّ..
عباية أنثى .. خطوات أنثى.. التفاتة أنثى وتضاريس أنثى.. لا شيء يبدو كلّ الجسد مغطّى.. مسجّى ..
الرأس.. الوجه.. العينين.. الكفّين.. القدمين..
قلت سلاما..
وانتظرت ساعة بل أيّاما..
قد تكون رصاصة فترديني..
"الله أكبر.. الله أكبر... توفي فلان إبن فلان رحمه الله... الجنازة بعد صلاة العصر يهدينا ويهديكم الله"..
وسمعت قرآنا يتلى قادما من مئذنة الجامع الكبير ينشر الحزن في سماء القرية.. يلوّن الوجوه أسفا وحسرة ثمّ تلاشى فكان الصّمت وكان الموت..
قد تكون خنجرا مسموما أو سكّينا بحدّين..
- " لقد طعنته مرّتين وتركته يتخبّط في دمائه مثل الخروف.. مثل الدجاجة.. لكنّي لم أجد شيئا في حقيبته غير منشفة عفنة.. كتابا مهترئا قديما.. دفترا صغيرا وأضغاث أحلام وقصائد مبعثرة.. أسماء رجال ونساء وخرائط وأرقام منسيّة وملابس داخليّة وسخة.. بالية".
حملوني وحمّلوني وعلى الأعناق رفعوني ثمّ وضعوني في سيّارة وأخذوني..
قال قائلهم..
- تشابه علينا.. كان حزينا.. كان كئيبا و كان في الشارع غريبا وكان يحمل حقيبة تبدو غريبة وعجيبة..
وشهد شاهد..
- كانت الرّياح وكان النواح.. كانت الرّمال كثيفة.. وكانت الدنيا مخيفة..
وقال كبيرهم..
- خذوه.. أرجعوه.. وحيث كان ردّوه وودّعوه..
أعطوني حلوة ومزمارا وأركبوني حمارا.. في مكاني وضعوني.. ابتسموا لي وقبّلوني ثمّ قلّبوني و غسّلوني وطحنوني وعجنوني ثمّ خبزوني وفي الفرن رموني وبعدها أخرجوني..
وقالوا..
- كنّا نلعب.. كنّا نمرح وكنّا نحتفل ونصخب أليس كذلك؟..
قلت..
- بلى كنّا نلعب.. كنّا نعبث..
تركوني ثمّ ذابوا في التّراب مثل الأصحاب..
وقد تكون وردة ومعها زهرة.. بعدها بسمة ثمّ همسة ولمسة..
وجاءني الردّ..
ضحكة خفيفة كرنين الوتر.. ضحكة جميلة كهسيس السحر.. ضحكة رقيقة كخرير الماء في سواقي البلدة.. كسقوط المطر على سطوح منازل القرية..
وكانت الرّصاصة وكانت الطّعنة ثمّ الطعنة..
وقالت..
- سلاما.. سلاما..