خُطّاب المي/ هانم!
صلاح حسن رشيد /مصر
منذ طفولتها، والخُطّاب يتلهَّفون لحجز قلب الميِّ الطري؛ فابنُ عمِّها الذي يكبُرها بعشر سنين صار خطيباً لها، وهي بنتُ ثلاث سنين! وابن الجيران، حفيتْ أُمُّه؛ لكي تُقنِعَ أُمَّها بالموافقة المبدئية عليه! وابن خالتها فَقَد صوابه عندما وقعتْ عينه عليها لأول مرَّةٍ! فصار يزور بيتها صباحَ مساءَ، لكي يُمّلِّي وجدانه من جمال المي، الذي طغى في الخافقّين باكراً! بل صار له مكانٌ ثابتٌ في البيت، وكأنه واحدٌ من أفراد البيت! ولكي تُريح الأُمُّ نفسها من مُطاردات الخُطّاب وأهلهم، كانتْ تُبدي لهم موافقتها الصُّوريَّة!
والأعجب في الأمر، قصة ساعي البريد، الذي مرَّ علي بيت الميِّ، لإعطاء والدها خِطاباً مُسجَّلاً باسمه، فما كان منه إلاَّ أن قال بعد أن فتحتْ له الميُّ الباب: سبحان الله! هل أنتِ إنسيَّةٌ أم جِنِّيَّةٌ؟! أنا قتيلٌ اليوم لهذا الوجه النَّدي، وهذه البسمة التي تحسدكِ عليها بناتُ حوّاء كلهنَّ!
وتحكي أُختُ الميِّ واقعةً طريفةً، عندما زارهم الشيخ/ سيد اللذيذ- مقرئ القرية- لأمرٍ ما؛ فظلَّ مشدوهاً مجذوباً ينظر إلى المي، وهولا يتكلم مُطلقاً! وعند مجئ والد المي، تحرَّكَ لسان الشيخ سيد في فمه قائلاً: هل تقبلني زوجاً للمي؟!
فقال الأب منفعلاً: ولكنْ أنتَ أكبرُ مني يا شيخ سيد!
فردَّ الشيخ، وهو يبتسم: أنا ما زلتُ شابّاً، روحاً وحياةً!
فقاطعه الأب: أبناؤك أكبر من ابنتي!
فقال الشيخ: ستعيش معي مثل الأميرة، التي تأمر فتُطاع!
فضحك الأب، ثمَّ نظر إلى الشيخ، وهو يقول: طلبك مرفوض يا شيخ سيد!
وبمجرد اقتراب المي من دخول المدرسة، إلاَّ وسارع عُمدة القرية لمقابلة والدها على انفرادٍ لأمرٍ مهمٍ. وبعد المقدمات الطويلة، قال العمدة: أنا أمتلك مائتّي فدانٍ، ومصنعاً، وعقارَين في المدينة، وفيلا في القاهرة، وملايين الجنيهات في البنوك، وكلُّ هذا رهنُ إشارة المي!
فقال الأب: ولكنها ما زالت طفلةً يا حضرة العمدة!
قال العمدة: طفلةٌ سبقتْ سِنَّها، وفارتْ قبلَ أوانها!
فزمَّ الوالدُ شفتَيه بغضب: ابنتي لن تتزوج يا عمدة!
وبعد عدة أيام، سمعت الأُمُّ طرقاً على الباب، فقامت لتفتحه؛ فهالها أنْ وجدت ضابط المباحث أمامها؛ فخرِسَ لسانها، ووجمت عن الكلام!
فأدركَ خوفها الطبيعي، فما كان منه إلاَّ أنْ قال: أنا ضيفكم اليوم يا خالة.
قالت: أهلاً وسهلاً، تفضَّلْ يا بُنَيَّ!
وبعد أنْ قدَّمتْ له كوباً من الشاي، قالت له: خير، هل من خدمةٍ نؤديها لك؟
فنظر في سقف الحجرة، وتلعثم لسانه برهةً، ثمَّ استجمع كلَّ قواه، وهو يقول: يُشَرِّفني طلب يد المي هانم يا خالة!
فلم تدرِ الأُم إلاَّ أنْ ردَّت: وهل أنتَ تعرف المي؟!
قال: كل المركز يسمع عنها يا خالة!
فحارتْ الأُم، وأصابها الوجوم؛ فماذا تقول له؟! لكنْ هداها تفكيرها أن قالتْ: ابنتي تزوَّجت يا بُنَيَّ!
فطارَ عقله بعد سماعه الجواب، وتصبَّبَ العرقُ من جبينه، ومادتْ به الحجرةُ؛ فخرج على الفور مُسرِعاً، لا يعرف إلى أين هو ذاهبٌ؟!
وحدث ذاتَ يومٍ، أنْ كُسِرَتْ يدُ والد المي، وهو في الحقل، ولمّا استقدموا طبيبَ الوحدة الصحية؛ للكشف عليه، وبمجرد دخوله البيت، ورؤيته الميَّ، إلاَّ وقد تسمَّرتْ رِجلاه في مكانهما، فجَحَظَ بعينيه، ولم يُصَدَّقْ أنه رأى مثل هذا الجمالَ الفِطريَّ بتاتاً! وبعد أنْ عاينَ المريضَ، ظلَّ يُتابعُ حالته طول اليومِ بهذه الحُجَّةِ الواهية؛ لكنَّ الحقيقةَ أنه كان يُطارِدُ خيالَ الميِّ في كلِّ مكانٍ تحِلُّ فيه في البيت! وعندما انتصفَ الليلُ، وأراد أهلُ الدارِ، الخُلودَ للراحة، رفض الطبيبُ تركَ المريضِ؛ فقد تسوءُ حالته! وإزاءَ إصرارهِ، تركوه في حُجرة الضيوف على مَضَض!
ولمدة ثلاثة أيامٍ ظلَّ الطبيبُ يتناولُ الوجباتِ الثلاثَ في بيت الميِّ مع والدها، ويشعرُ بالراحة والسعادة كلَّما دخلت الميَّ عليهما بالطعام والشَّراب! وعندما اطمأنَ على صحَّة المريض، ذهب الطبيبُ مُسرِعاً إلى الوحدة الصحية، ثمَّ عاد إلى بيت الميِّ، وهو يحمل أدويةً كثيرةً، قائلاً: لقد جئتكم بأدويةٍ ممتازةٍ، غير موجودة في أيِّ مكانٍ آخر؛ فشكره الأهلُ، لكنه فاجأهم بطلبه العجيب في ضرورة حضور المي الآن، لأنه يحمل لها هديَّةً! وأمام هذا الحرج، جاءته الميُّ، وهي في خجلٍ جمٍّ! فأخرج الطبيبُ حقيبةً من البلاستيك، وبداخلها مجموعة متكاملة من أدواتِ الزينة والمكياج قائلاً: هذه لكِ يا عزيزتي، حتى تعتني بجمالكِ أكثر، وأنا سأُشرِفُ على ذلكَ بنفسي!
فنظرتْ الأُمُّ إلى الأب باشمئزازٍ، وهي تصرخ قائلةً: شكراً يا دكتور على اهتمامكَ بزوجي، ولكنْ، ابتعدْ عن المي .. المي خطٌّ أحمر! فما كان من الطبيب إلاَّ أنْ قال بانكسارٍ واضحٍ: عمي، يُشرفني طلب يد المي منكَ الآن! فقال الأب: انسها يا بُنَيَّ، أنتَ شابٌّ وأمامك مستقبلٌ واعد!
فقاطعه الطبيب: حياتي مرتبطة بها؛ وموتي سيكون لو فرَّقتم بيني وبينها!
فتدخَّلتْ الأُم لتُنهي المقابلة: إذن، اذهب لتموت بعيداً عنَّا! نحن لا نريد مصيبةً أخرى!