هذا يومك..
هذا يومك..
لطفي بن إبراهيم حتيرة
الهموم تتقاطر من عينيه.. الكآبة تتزاحم فوق حاجبيه.. الشعر المحترق صار رمادا.. النظرات الحانية تلاشت.. البسمات الليّنة وئدت.. شفتاه مزمومتان.. يداه لا تثبتان وأنامله تخفقان.. يحاول التماسك.. يصارع لكي يتماسك.. يغالب الرّيح لكنّ العاصفة قويّة.. يعلم جيّدا أنّ العيون تحاصره.. يدرك أنّ النّظرات مشدودة إليه.. نظرات أحفاده سهام تنطلق لتغرس في جسده.. عيون بناته وزوجات أبنائه بنادق العالم ترصده تتعقّبه متسائلة.. ما باله لا يستقرّ, يروح ويأتي ويجلس وينظر إليهم بقلبه لابعينه.. يقف لحظات أمام الباب.. يحمل الرشّاش بين يديه.. يتفحّصه ويدنيه إليه ثمّ يقبّله قبلات حارّة وبعدها يضعه فوق الفراش برفق.." يا حبيبي نم قليلا ساعة الرّحيل قربت".. جلس ثمّ وقف متشامخا.. شامخا برأسه.. سنديانة في حقل كلّه حشيش.. دوحة في زرع من الهشيم.. ونخلة أصلها ثابت وفرعها في السّماء..
.. نظر لا وجود غير وجوده.. نظر هناك بعيدا.. مبتعدا.. قطط تتراقص.. تتلاعب.. تتراكب بعضها فوق بعض.. كلاب مكلوبة.. أنيابها مسمومة.. ألسنتها كألسنة اللّهب وعيونها تقدح غضبا.. كلاب عاوية تمسكها كلاب حاقدة.. زبانية.. هناك مضى.. هناك مشى ورأى ما رأى ربوة خضراء.. يجري من تحتها الماء.. جنّة عالية قصورها دانية.. والعصافير تنادي عليه مرحّبة.. مستبشرة في نور وضياء.. ضحك وطرب.. وضجّ وتهلّل.. وتبسّم وابتسم.. وصعد درجة.. ونزلوا دركة.. ارتقى وترقّّـّى.. وخابوا وتردّوا.. وكبكبوا على وجوههم في أوحال مزابلهم.. ومضى يحمل بندقيّة تكاد تسقطه.. سبعون عاما لا خير فيها
سبعون عاما عشتها لحظة مرّة, اليّوم أعيشها رعشة جميلة, نظرة حانية ولطيفة.. سبعون عاما اليّوم يومها اليّوم يومي.. اليوم عرسي وفرحي..اليوم إلى ربّي أمضي.. وقف خلف الباب, أنصت سمع جلبة في الحاّرة.. إنّهم قادمون وتحفـّز و صاح الأطفال " جدّي.. جدّي.." وتعلّقت عيون النّسوة في الفراغ
مرتقبة, مرتعبة, مرعوبة ومسكونة بصمت ثقيل.. نظرن إليه تحرّكن معه تشوّفن وتشوّقن وانتظرن..
وانطلق الرّصاص فجأة.."الآن.. الآن" وسار يحمل في قلبه شهادة لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله وفي جيبه يحمل قرآنه وعنوانه وبرهانه.. ومكث غير بعيد وحين أطلّ من فرجة البّاب رآهم كالشياطين يتقدّمون.. يتكلّمون الفارسية بلكنة عراقية ولبنانيّة.. يحملون رايات حزب الشيطان.. وجوههم كالمجنّ المطروقة.. وقف يصلّي ويكبّر وصوّب نحوهم وأطلق بركانا من الحمم عليهم فأسقط من أسقط وظلّ يطلق ويكبّر حتى تساقط مكبّرا و مبتسما.. مغسّلا بدمه مكفّنا بوطنه معطّرا بعبق الأرض التّي أنجبته....
صاح الصغار.." جدّي.. جدّي.." وخرج أصغرهم يجري.. يبحث عن جدّه فلمّا وجده ارتمى في حضن جده, متمرّغا في دم جدّه على صدره ووجهه مقبّلا جبين جدّه.. فأخذه جدّه وابتسم له وقال والرّوح تفارقه
.. لا تبكي يا باسم.. لا تبكي.. وأشار إليه بالعودة إلى أمّه وقبل أن يمضي عاجلته رصاصة الحقد الدفين فأسقطته فوق صدر جدّه محتضنا متوحّدا, ومتّحدا, ممتزجة دماءه بدماء جدّه...
وضلّ إخوته ينظرون إليه من فرجة البّاب يتباكون ويصرخون.." جدّي.. باسم.. جدّي.." والنسوة سمعن ولا يدرين ما الذي حصل والدّموع تتدفّق من أعينهن بصمت يذيب الحجر...