حارس الحدود

حارس الحدود

هناء موسى -فلسطين

بعيني شيطان وحدقتين سوداوين حدق في عيني الموت مرارا، لذلك لم يمت .. خلف كل حجر ، بعد كل شبر كان يترصده الموت لكنه لم يمت .. لا يعلم أيهما كان يخشى الآخر فيخلف موعده  ، لكن مؤكد ليس هو ...

في الطريق الضبابي المعتم تعبره أشباح لا يلتفت لها كثيرا ، يتوقف بجانبه رجل يسأله ان كان يحمل ولاعة ، يشعل الولاعة فتأخذ الريح لهيبا .. فيضغط عليها بعنف كزناد مسدس لم يخنه مرة ، الا تلك المرة التي فقد بعدها صوته .. يشعل سيجارة الرجل ويمضي ..

يمضي كل منهما في اتجاهين متعاكسين ... بعض الأشباح التي تمر به تتوقف قليلا تنسى تعبها ووجعها لتحدق به .. بحق الجحيم الى أين ذاهب هذا الرجل ؟!!

تستوقفه سيارة تعميه أضوائها فيضع يده على عينيه يخفي قسمات وجه واجم .. الزي العسكري تحت معطفه الشتوي الأسود والحذاء العسكري يغريان قائد السيارة كي يسأله عن الطريق الى الحدود اللبنانية .. فلا يجيب ولا يتوقف ..

 الرجل الذي ما عبر الحدود يوما عبرها .. ليقطع حنينا الى الشام في دمه الفلسطيني .. يسير طويلا تاركا خلفه الحدود التي كان يوما حارسها قبل أن يكتشف لنفسه حكمة ، لا أمان على الأرض وسلاحك لا يفعل شيء سوى ان يؤجل موتك قليلا ..

الجميع يحدقون به الماشون الذين يحملون أبنائهم وأمتعتهم وجراحهم وراكبو السيارة المكتظة ، فوحده يسير في الطريق المعاكس .. عجوز تقع هي وصرة ثيابها بالقرب منه فيمضي دون أن يلتفت أو أن يهب لمساعدتها فقد مل من تعكيز وطن عجوز لم يهبه الا الخيبة والتشرد ...

وصل اليرموك فجرا .. لا يعرف هل وصل والبنادق نائمة أم لم يبق أحياء ؟!!  سار يتأمل اليرموك ويبحث عنها ... الدور حجارة تنزف  فوق رؤوس ساكنيها ، والرؤوس بعيدة جدا عن أجسادها ..المآذن بلا حناجر ، والسماء حمراء والأرض  خراب... 

تلفت حوله كولد يتيم للتو فقد ذويه : أين أنت يا أمي ؟؟!! في أي شارع تسكنين ؟ تساءل وهو يبكي .. مشى بين الخراب يبحث عن أهل أو عن أحياء يخبروه أن هذه  ليست اليرموك ..وقف أمام بندقية ونصف رجل ، لعله أخيه الذي لم يره ... يمشي فيسمع شيخ يصلي ويبكي بحرقة ويدعو الله أن يحفظ بنوه الأربعة الذين  ضلت أقدامهم طريق المنزل ما أن قبضت أيديهم على البنادق .. يدقق في الصوت جيدا لعله زوج أمه والغائبون أخوته الغير أشقاء ... طفلة تجلس فوق الركام ولاتزال تلعب بدميتها وكأن ما يدور حولها ليس الا لعبة عنيفة قليلا .. ولا أحد يجيبه لا وجوه الموتى ولا وجوه الأحياء .. عجوز تجلس أمام بيت بالكاد تقف أعمدته تولول وتبكي ابنا وزوجا لم يموتا في نكبة أو نكسة في فلسطين بل ماتا هنا  في اليرموك في نكبة أخرى أبشع من كل نكباتنا ....

 ينظر الى الطائرات التي تحوم في السماء .. تدوي انفجارات أعنف من كل سابقاتها  تهتز لها اليرموك كلها ويهتز لها قلب المرأة التي تقف في الصف الطويل بملامح واجمة يشبه وجوم وجه حارس الحدود هي وفتى في السادسة عشر بانتظار تقديم أوراقهما  الثبوتية لموظف الحدود اللبنانية السورية ...