يكان وريكان
حيدر الحدراوي
يكان وريكان اخوين يعملان في مقهى متواضع , في سوق شعبي قديم , يرتاده بعض المسنين في المنطقة , يفتحان المقهى باكرا صباح كل يوم , ويقدمان فيه الشاي والحليب البقري الطازج , ذلك الحليب الذي تجود به بقرة ريكان .
ذات صباح , جاء الى المقهى رجل امن بلباس مدني , فطلب من يكان مبلغا من المال , في كل مرة كان يطلب مبلغا معقولا , لكن هذه المرة طلب مبلغا ضخما (خاوه) لا يملكه الرجلان , احتج يكان عليه بشدة , واخبره بأنه لو باع المقهى بكافة اثاثه لا يمكنه من توفيره , فغضب رجل الامن وتوعدهما بالشر , وامهلهما حتى الليل .
بعد جدل طويل بين الشيخين , اظهر كل منهما عجزه للاخر , وايقنوا بما لا يقبل الشك , ان رجل الامن سيلفق لهما تهمة كعادته مع من لا يدفع المبلغ ( الخاوة ) , فما العمل ؟ , اما الدفع واما الهرب , امران مرّان .
يكان: شراح نسوي ؟
ريكان : نشرد
يكان : وين انولي ... مو راح ايكلبون العراق علينه كلاب بيت بيت دار دار زنكه زنكه
صدق حدس الشيخين ففي ساعات متأخرة من الليل , هجمت قوات الامن وافراد حزب البعث على بيت يكان اولا , ثم اقتحموا بيت ريكان المجاور , القوا القبض على الشيخين , واقتيدا الى السجن , بتهمة الانتماء الى جهات سياسية معارضة للنظام .
ارسل الشيخين الى احد السجون الخاصة بالسياسيين في بغداد , واودعوا في زنزانة صغيرة , قذرة , لا تسكنها حتى الحيوانات او الاشباح .
كان ضابط التحقيق على ثقة تامة بأنهما بريئين من هذه التهمة , وان التهمة كيدية , فلم يجري لهما أي تحقيق , بل قرر ان يسجن معهما شخص من رجاله ليحاول استدراجهما قدر الامكان .
فتح الشرطي باب الزنزانة , ودفع شخصا بعنف الى الداخل , حدق الشيخين النظر فيه طويلا بعد ان القى التحية , جلس مظهرا عليه اثار التعب , وشرع بسب الحكومة اشد السباب , محاولا استدراج الشيخين , لكنهما لم ينبسا ببنت شفه , وتحليا بالسكوت , واكتفيا بالاستماع , فاخرج يكان علبة التبغ , وبحركة اصابعه الخفيفه لفّ سيكاره , رفع يكان السيكارة الملفوفة الى فمه ولعقها بلسانه كي يرطب حافتها ومن ثم طيها في اثناء ذلك قال :
يكان : ريكان ... او لا جابت الهاشه مالتكم ؟!!
ريكان : خليته تريد تولد .
يكان : ام درعان تعرف اتولدهه ؟
ريكان : جا شمالهه ما تعرف اتولد الهاشه .
يكان : جا مرتي ما تعرف اتولد الصخلة .
ريكان : صدك يكان ... صخلتك البكعه اشلون صارت ؟
يكان : والله بعدهي ما هي طيبه
ريكان : ساعه وماتت
امعن الرجل الثالث في احاديث الشيخين امامه , حتى حلّ الليل , ففتح الباب , ونادى الشرطي بعنف بالرجل الثالث , وجره بقسوة الى خارج الزنزانة .
شرح هذا الرجل ما دار من حديث بين الشيخين لضابط التحقيق , فكتب تقريرا مطولا , بيّن فيه براءة الشيخين من التهم الملفقة لهما , فأعلن اطلاق سراحهما في اليوم التالي .
عاد الشيخين الى مدينتهما , من بعيد لمحّ يكان تغيرات في موقع منزليهما , كان المنزلان قد هدما , وصودرت محتويتهما , وقف كلا من الرجلين اما منزله , واستهل بلطم الخدود والعويل , اخذتهما الحسرات , وتعالت منهما الزفرات .
كانت عينا يكان لا تفارق احد الحيطان , الذي لا يزال قائما , فأقترب منه , وحفر حفرة فيه , فأخرج علبة حديدية , كانت مخفية بشكل جيد , فتحها ليتفحص ما بداخلها , مدّ يده وتناول منها بعض الدراهم , فحمد الله واثنى عليه .
ريكان بدوره كان يراقب يكان , اقترب منه , وقال :
يكان : هاي صايتي وصرمايتي
ريكان : همزين ما فلشو هذا الحايط .
لكن ريكان لاحظ شئ اخر , وهو ان جميع جيرانهم و سكان المنطقة لم يكلموهما , فقد امتلئت قلوب الناس خوفا من بطش اعوان النظام , فأحتارا في امرهما , اقترح ريكان ان يمضوا الليلة في المقهى , فلا يزال المقهى على حاله , لم تمتد له ايادي النظام .
يكان : انه اشوف .. هذوله ما راح يخلونه بحالنه
ريكان: أي والله
يكان: خلي نهج للكويت لو لايران
ريكان : حدود ايران متروسه جيش , عبرتها مو سهله , بس الكويت عبرت الحدود من مثل عبرة الكنطرة .
في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم , انطلق الشيخان الى الكويت , فور وصولهما توجها لبيت الحاج شمخي ابو اللبن , الذي استقبلهما افضل استقبال , واكرمهما احسن تكريم .
انتهت الحرب العراقية الايرانية , فأجتاحت القوات العراقية الكويت , غير ان يكان وريكان افلحا بالهروب الى السعودية , ومن هناك الى سوريا , حيث بقيا هناك حتى زوال عرش الطاغي , لم تطمئن قلوبهما لما حدث في العراق , فقررا ان يتريثا عن امر العودة ريثما تتحسن الامور والاحوال .
بعد ان تحسنت اوضاع العراق قليلا , قررا العودة , فوصلا المدينة , تلك المدينة التي سكنوا فيها ابا عن جد , بينما هما على مرمى البصر من بيتيهما , توقف يكان منبهرا :
يكان : مو هذه بيتي .. لو انه متوهم
ريكان : أي هذه بيتك وهذه بيتي
يكان : جا اذا هذه بيتك ... هذه القصر المن؟!!!
ريكان: هذه مو قصر جنه ناطحة سحاب
حسما للتساؤلات فيما بينهما , قرع يكان باب القصر , وبعد قليل فتح الباب شخص متوسط العمر , بعد التحية والسلام .
يكان : هذه البيت المن ؟
الشاب : هذه بيت فلان الفلاني
اتضح ان احدا من الشخصيات المرموقة قد استولى على البيتين , وبنا فيهما قصر منيف , مدعيا ان هذه الارض تعود ملكيتها لابيه واجداده .
ريكان : بس هذه البيت بيتي , ورثته من ابوي وجدي
يكان: فلان الفلاني لا هو من اهل المنطقة ولا اله عرج هنا ... او ولا واحد يشهد اله بملكيته الارض .
الشاب : هذه الحجي ما يصرف , يالله انكلعوا منا
على اثر هذه الكلمة استشاط يكان غضبا , فضرب الشاب , وتناوله ريكان , فكالوا له الضربات والركلات , حتى وصلت دورية الشرطة واوقفت النزال , والقت القبض على الشيخين , واودعوا السجن , وبعد ان رفعت القضية الى المحكمة , ادعى فلان الفلاني بأن هذه الارض تعود ملكيتها لابيه وان النظام قد صادرها منه , وملكها للناس , ولم يقدم أي دليل سوى علاقاته الشخصية بالحكومة الجديدة , التي تعتبر كلامه دليل فصل , وبناءا على طيبته وحسن سريرته تنازل عن القضية وطلب من القاضي اطلاق سراح الشيخين .
افرجت المحكمة عن الشيخين , وتسكعا في المدينة , وتوجها صوب المقهى , فما ان وصلا , وجدا ان الشارع مقطوع بالحواجز الكونكريتية , ووقف بعض الحراس امام مبنى كبير , فنظر يكان الى قطعة كبيرة مكتوب عليها حزب الـــ.............. , فأنبهر الشيخان اشد الانبهار , وتجادلا في ما سيفعلانه هذه المرة , وبعد جدل طويل , قررا ان يسألا احد الحراس , فأخبرهما الحارس ان هذه الارض تعود ملكيتها للسيد فلان الفلاني , وقد تبرع بها لبناء مقرا للحزب .
يكان : بس نحجي يودونه للسجن
ريكان : جا بالله هسه اشلون ؟ ..... اخذو بيوتنا والكهوه ... جا اشراح انسوي
يكان : احسن شي انروح لمنظمة حقوق الانسان ! .