ذو لحية قديمة

قصة واقعية

محمد سعيد قندقجي

أقلعت الطائرة متجهة به إلى بلده الحبيب.. تذكر وهو جالس على مقعده رابطاً حزام الأمان، غربته التي امتدت خمسة وعشرين عاماً، فقد غادر بلده ليتخصص في جراحة القلب، فحالت ظروف كثيرة بينه وبين العودة، إنه الآن طبيب مشهور ذو مركز مرموق، يشار إليه بالبنان، وتعرض عليه المغريات الكثيرة ليستمر في عمله، وهو متزوج وأب لخمسة أولاد، لم يشاهدوا وطنهم ولم يعرفوا منه إلا اسمه.

كان ينظر إليهم فيراهم كالنبتة التي اقتلعت من جذورها، وغرست في تربة بعيدة عن تربتها، فقد انعكست آثار الغربة على سلوكياتهم، فعاشوا حياة العزلة، وفضّلوا عدم الاختلاط بأقرانهم، ولاذوا بالصمت الحزين في معظم أحيانهم. لقد كان قلبه يتقطع حسرة عليهم وعلى زوجته التي صارت تعاني من حالة عصبية شبه دائمة، فقرر السفر وليكن ما يكون، ولم يخاف وهو لم ينخرط في حزب سياسي معارض، ولم يجهر بقول مناهض – ولم تكن له صلات بأي مشبوه إلا أنه رأى ما عليه الغرب من فساد وانحلال فقبض على دينه كالقابض على الجمر، وأعفى لحيته في مجتمع يعج بالشهوات، ويمور بالفتن، ويعيش الإباحية الجنسية في كثير من مظاهره.

نظر إلى حزام الأمان، ثم نظر إلى ساعته التي تبدو كأن عقاربها متوقفة، ما لهذه الطائرة بطيئة في سيرها؟ سبقه خياله إلى بلده الحبيب، فتخيّل مستقبليه من أقاربه في المطار، وشعورهم عندما يتعرفون إلى أبنائه، وتخيّل بيت الأهل مسقط رأسه، فطاف به حجرة حجرة، وتذكّر أثاثه وكل صغيرة وكبيرة فيه، وبيوت الجيران، وأبناء الحي الذين أضحوا رجالاً وصارت لهم أسر مثله.

هبطت الطائرة ففك حزام الأمان، وتمنى لولا زوجته وأولاده لكان أول النازلين منها.. كان لابدّ من بعض الإجراءات في المطار، وكان لابدّ من مراجعة بعض المراكز الأمنية في الأيام الأولى من وصوله، وإلا عد ملاحقاً، ووقع في إشكالات أمنية لا قبل له بها، غير أنه آلى على نفسه ألا يذكر هذا لأحد، باعتباره سراً من أسرار دولته لا يرغب أن يبوح به لأحد.. وكان لابدّ من أن يخرج "الهوية" الجديدة التي استبدلتها الدولة بالهوية القديمة منذ سافر فآثر أن يتوجه في وقت مبكر إلى دائرة الأحوال المدنية لينهي إجراءاتها قبل انتهاء إجازته القصيرة، وأحضر معه الصور الشخصية ودفتر العائلة بالإضافة إلى بطاقته القديمة.

نظر الموظف إلى الصورة الجديدة، وإلى الصورة التي على البطاقة القديمة، فوجد فارقاً بينهما إنها "اللحية"، فردّ المعاملة بدعوى عدم انطباق شخصية صاحبها على صورته في البطاقة القديمة، فطلب منه أن يحلق لحيته ويحضر صوراً جديدة، أو يحضر ما يثبت أن لحيته هذه التي نبتت في وجهه لحية قديمة، وعبثاً حاول الطبيب المغترب أن يقنعه أن لحيته هذه لحية قديمة، وأنه عندما استخرج بطاقته الأولى لم تكن سنّه تتجاوز السادسة عشرة، فأبى إلا أن يثبت الطبيب ذلك بوثيقة يحضرها من مختار الحي الذي يقطن فيه.

توجّه الطبيب إلى المختار الذي لم يكن يعرفه على الإطلاق، لأن المختار القديم توفي منذ أكثر من عشرين عاماً، وبفضل الله وجد المختار الجديد طيب القلب، فأعطاه ما يثبت قدم لحيته، لقاء مبلغ متعارف عليه في مثل هذه الأحوال.

أسرع الطبيب فرحاً إلى موظف الأحوال المدنية، وسلّمه إثبات اللحية القديمة، غير أن فرحته لم تكتمل عندما أعاد الموظف المعاملة مرة أخرى، وطلب منه تصديق الإثبات الذي أحضره من مدير الأوقاف في البلدة. حاول الطبيب أن يقنع الموظف بتجاوز هذا الشرط بدعوى أن مدير الأوقاف لا يعرفه ولا يدري عن لحيته خبراً، فأبى وكان لابدّ من التوجه إلى مدير الأوقاف الذي رحّب بالطبيب المغترب العائد إلى بلده، غير أنه اعتذر عن المصادقة على الإثبات، لأن هذه المصادقة لابدّ أن تكون بعد اجتماع لجنة مخصّصة لهذا الغرض تجتمع رسمياً كل ثلاثة شهور مما يعني انقضاء الإجازة قبل الحصول على الهوية الجديدة.

وقع الطبيب في حيص بيص وعاش أياماً من المعاناة والقلق إلى أن توسط أهل الخير لدى أعضاء اللجنة ومدير الأوقاف فتمت المصادقة على الوثيقة لقاء مبلغ متعارف عليه في مثل هذه الأحوال أيضاً.

وأقلعت الطائرة في رحلة العودة بالطبيب الذي لم يعد يدري بحق هل سيعود إلى بلده بعد خمسة وعشرين عاماً آخر، أو لا يعود خوفاً من أن تشيب شعرات لحيته فتتبدل المواصفات مرة أخرى؟.