الرؤيا الصادقة

سمر حامد العامودي

سمر حامد العامودي

كان لها من الأبناء سبعة، إثنان من الذكور وخمس إناث، أكبرهم جابر ذي الإثنين وعشرين عاماً، بارّا بوالديه محبّاً لهما، ولإخوته.

كانت الأم دائماً تتحدث عنه وعن أخلاقه الحسنة وصبره على شقاوة إخوته، ومساعدته لهم، في مجالات حياتهم، وتتباهى بذلك بين قريباتها، ولمساعدته والده بكثير من الصبر في دكانه الكائن تحت المنزل مباشرة، وهذا العمل يُشكّل دخلاً مادياً ثانياً للأسرة.

كثيراً ما كان زوجي يزور صديقه الحميم أبي جابر، في دكانه، وأخبرني مرةً عن ابنه، وعن رجاحة عقله ورزانته، وبجده واجتهاده أنهى دراسته الجامعية، أما أمّ جابر، من جهة أخرى فكانت تشكو لي عن شقاوة ابنها الثاني ألذي يصغر جابر بسبع سنوات،

أمّا البنات فكان لهنّ في قلبي مكانة، وأذكرهنّ في آخر زيارة لهذه العائلة، يلعبن ويتراكضن في مرح ودلال، خاصة الصغيرتين منهنّ، كي يلفتن انتباهي إليهنّ.

وانشغلنا في هذه الدنيا بأمور كثيرة عن هذه العائلة فترة من الزمن، ولم نذهب لزيارتهم، أو نراهم ما يقارب السنة, مع أنها صديقتي، إلاّ أنّ مشاغل الحياة كثيرة، أحيانا تلهينا عن بعض الواجبات.

إلى أن سمعنا خبرا من بعض الأصحاب، تناقلوه حتى وصل إلينا، وقد أفزعنا أيّما فزع، وهو موت جابر، الشاب المحبوب البار.

فأسرعنا راكبين إلى منزل أبي جابر، بعد صلاة العشاء،

كان البيت يعج بالنساء، وفي زاوية البيت رأيت أم جابر، وقد تحلقن حولها قريباتها وجاراتها، ورأيت الدمع يسيل من عينيها سيلا دون توقف، وبعض النساء يتكلمن الكلام المطمئن ألجميل، جملة من هنا وجملة من هناك، إلى أن جاءت امرأة وجلست بجانب أم جابر، بعد أن سلّمتْ عليها واحتضنتها، وصلّتْ على رسول الله وألقت موعظة أو درسا دينيا كان جميلاً، وأفادت النساء وخففت على أم جابر مصابها الجلل.

كنت أنا عقب هذا الدرس الدينيّ، قد سلمتُ عليها واحتضنتها وخففتُ عن بناتها قدر ما استطعت من ألهمّ والحزن، وتعلقتْ بي أكبرهن، ألتي لم تتجاوز ألسادسة عشرة كنت أدللها كثيرا وهي أصغر سنا، وحَكين لي كيف توفي أخوهن وكيف أن (مرض اللوكيميا) لم يمهله أكثر من أسبوع في المستشفى رحمه ألله تعالى. ورأيت صديقتي، أمهنّ، لا تفتأ تذكر ألله وتطلب ألرضا لولدها.

وبعد بضع ساعات غادرتْ من بقي من النساء المكان، وأنا بعدهن.

وبعد عدة أشهر من هذه الحادثة خطرتْ على بالي صديقتي أم جابر، فاستبد بي الشوق لمعرفة أخبارها، فذهبنا لزيارتهم، أصيل نهار رائق وجميل، من أوائل أيام حزيران، أنا وزوجي حيث كان أبو جابر كالمعتاد في دكانه، فذهب إليه زوجي، وأنا صعدت إلى الطابق العلويّ حيث أم جابر، فاستقبلتني بحفاوة وحب، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث من هنا وهناك، وكلما اقتربنا من الحديث عن أبناءها آخذها بعيداً لئلا تتطرق إلى الحديث عن ولدها ألبكر جابر. وأحسّ ساعتئذ أني فتحت جرحاً لا أريده أن يدمي. ولكن! الجرح ألذي خفت منه، كان مفتوحاً لكنها تُخفيه. ولم تستطع أن تخفيه فترة طويلة، إذ أنها سكتت فجأة خلال حديثها عن أسرتها، كأنها تذكرتْ شيء تريد إخباري به، ولاحظتُ أن عينيها تحكي وشفتاها مطبقتين دون كلام، وهي مبتسمة.

فبادرتُ بسؤالها: ما بك؟ فتنهدت تنهيدة عميقة وقالت: لقد اعتمرتُ عن إبني وتقبلها ألله مني. فقلتُ مؤكدة لكلامها، قولي إن شاء الله.

فقالت: أنا متأكدة أن الله تعالى قبلها، وأخذتْ تسرد لي كيف أنها ذهبت للعمرة بصحبة أخيها، واعتمرت عن نفسها أولا، ومن ثمّ عن ابنها رحمه الله تعالى.

وكانت تحدث أخيها عند عودتها من مكة ألمكرمة وهي لا زالت في المركبة، وتسأل أخاها: هل تعتقد أن الله تعالى تقبّل العمرة عن جابر؟ فصار أخوها ُيطمئنها ويحدثها عن التوكل على الله تعالى والثقة بالله. وهنا دمعتْ عينها وتوقفت عن ألكلام قليلا وقالت لي: غفوتُ يا أختي على مقعدي في المركبة بعد هذا الكلام بيني وبين أخي. فرأيتُ ولدي يطوف بالكعبة المشرفة ويلبّي، فصحوتُ مباشرة وأنا ألبي مع إبني، وأخذتْ تقول لبيك أللهم لبيك، ثم أمسكتْ أم جابر بيدي كأنها تطمأنني أنها بخير وتقول ألحمد لله تقبّل ألله العمرة.

فدعوتُ ألله معها وجففتُ لها دمعها بمنديلي. أما دمعي فما استطعتُ تجفيفه. وكلما ذكرتُ القصة لأحد ما، أو حدثتُ بها نفسي أو تذكرتها دمعتْ عيني بغزارة.