رجل البندقية

هناء موسى - فلسطين

ينبح الكلب خارجاً .. فيقترب بحذر من النافذة يزيح طرف الستارة قليلا وينظر إلى الخارج .تكتسح أنفه رائحة البارود والموت، لكنه صار مقاوماً لتلك الرائحة التي تسري في دمه الآن ... أولاد الحرام حتى الكلب !! يقول لنفسه متمتماً وهو ينظر إلى كلب يجر قائمتيه الخلفيتين والدماء تنفجر من جروحه لتغرق أرض حي صلاح الدين في حلب ،يسمع صوت جلبة في الخلفية فيقرب رأسه أكثر من الشباك مخاطراً بحياته من أجل فضوله، فهو يعلم أن قناصاً في البناية المجاورة سيتلذذ بتفتيت رأسه وأي رأس آخر لا يؤله بشار ... يراهم يركضون يستترون حيناً بالركام وحينا بجدران تملؤها الثقوب تحتاج لمن تستتر به ..بخفة ورشاقة يتنقلون كغزلان برية ،لكن الذئاب تهوى صيد الغزلان ... يسدد القناص رصاصة تعرف طريقها جيدا إلى رأس أحدهم فيفتت رأسه ذو السبعة عشر ربيعا التي لم يعشها، يصرخ أحد زميليه الاخرين فيكمم ثالثهما فمه ويكتم صرخته ويجره بعيدا إلى زاوية تستعصي على القناص ..

كان لازال أحدهم يكمم فم الآخر بينما أخذ المكمم يشهق ويذرف دموع قهر صامته ....لم يتوقف النشيج إلا بعد ساعتين لم يمل القناص خلالها ولم يأخذ استراحة بل ظل يذكرهم بموعدهما مع الموت بإطلاق رصاصات من حين لآخر، إن كان لمثلهم أن ينسوا فالموت منذ سبعة عشر شهراً يقف عند باب كل سوري لا يبارحه أحيانا يلتقيان على الموعد تماماً وأحياناً يتفقان على التأجيل طبقا لكرم أخلاق الموت وطبائع الميت...

جلسا وأسندا ظهريهما إلى جدار منتظرين موتهما أو موت القناص أو نفاذ الرصاص أو صحوة العرب ....ولما كانت الأشياء الثلاثة الأخيرة تبدو ضربا من المستحيلات جلسا ينتظران موتهما ولكن أرادا أن يرهقا القناص فحسب ..

أخرج عادل من جيبه علبة سجائره وأخذ يدخن وهو يتطلع إلى جثة صديقهما الثالث ،لماذا لا نستسلم رصاصة في الرأس ولن تشعر بعدها بشيء؟!! ثم ينظر إلى صديقه الذي تعب من النواح أو نفذت دموعه..لماذا لم يبك مثله على زميلهما الثالث لم يكونا يتفقان كثيراً بسبب الأفكار المغلوطة التي زرعوها في رأسه والحقد الطائفي الذي أججوه في صدره لكنه كائن بشري لحماً ودماً ..أم لعلهم أرادوا أن يتأكدوا؟!! أنه من دم ها قد سال الدم ..انه دم ...ثم يضحك ضحكة هستيرية يرتجف لها جسد أمجد ليجعل الأخير ينظر اليه بحقد يائس ...ما الذي يضحكك ؟؟ نطقت عينا أمجد دون شفتيه

عادل : كان يؤمن بالأسد إلى أن أكلته الذئاب ..وكان يؤمن بنظرية المؤامرة إلى أن تآمروا عليه ..

كان الكلب الكسيح لا زال يطلق صوتاً لكنه لا يشبه النباح بل الخوار، وهو يجر قائمتيه الخلفيتين ..نفث عادل دخان آخر سيجارة له ورمى عقبها بعصبية ثم أمسك صديقه من يده وقام وقال: رصاصة واحدة لن تشعر بعدها بشيء سنذهب إلى الله نشكوهم ... لجم صوت الرصاص أحلامهما وتتطاير الشرر بفعل ارتطام الرصاصات بالحائط ..وكان بمثابة إعلان أن القناص لم يمت بعد ولم ينفذ الرصاص ولم يستيقظ العرب كذلك..عادا إلى جلستهما ..كان الوقت يمر بطيئاً ممتلئاً برائحة البارود والموت والقهر والدماء

ولا زال الرجل خلف الستارة يراقبهم مغامراً بحياته من أجل فضوله ...بدا الظلام يحل ولم يستسلم أي منهم لا القناص ولا الضحيتان ولا الفضولي ولا الكلب الكسيح ..وحده النهار من استسلم

كرر الرجلان محاولة الفرار مستغلين عتمة الظلام و شحوب مصباحين يتيمين في الشارع ..لكن الوغد كان لهم بالمرصاد ،اندفع سيل من الرصاصات باتجاههما :اللعنة عليه ما نوع السلاح الذي يستعمله ؟!! قال عادل ......يبدو أنه يجرب سلاحاً جديداً قال أمجد الذي يبدو أن صوته قد عاد ..لم يفلح رغم ذلك في قتلهم ولم يفلحوا بالهرب ..

أما الرجل الفضولي فقد ظل يتوارى خلف الستارة مثله مثل الكثير غيره ..ليلة كاملة مرت لم ينم فيها أحد سوى الكلب الكسيح الذي توقف عن موائه وجر نفسه ووضع رأسه بين قائمتيه الأماميتين وأغلق جفنيه لا يعلمون هل نام أم مات ..كان عادل يفكر لم تركه الوغد يتعذب كل هذا الوقت أم أنه يدخر رصاصه لرأسيهما ..ويفكر أمجد لم اختار الكلب بقعة مجاورة لجثة مازن ؟!! ويفكر الفضولي اللعنة على هكذا نظام حتى الكلاب منه لم تسلم ...ويفكر القناص خمسة رؤوس أو ستة كل يوم، في الأسبوع ثلاثون ،في الشهر مئة وخمسون رأساً، في السنة...........

قبل بزوغ الفجر بقليل اغتنما فرصة الهدوء النسبي وتسللا يحتميان ببعضهما ..لكنهما ظنا خطئاً صمت القناص توبة فاشتد انطلاق الرصاص نحوهما أعنف من أي وقت مضى لديه جدول زمني عليه أن ينجزه وكاد يحل يوم جديد ولم يحقق أرقامه بعد ..رصاصة ليست طائشة اخترقت فخذ أمجد فأخذ يصرخ من الألم وتعالى صراخه، أكثر ما أن ادرك أنه وقع في بركة دماء مازن والكلب...رأى الفضولي شيئاً غريباً هل غير القناص شرعته هل بدل مبادئه لم لم يجهز على الرجل الذي في مرمى نيرانه ؟!! يبدو أنه يتسلى هكذا قال لنفسه

عادل الذي كان محتميا بالجدار لا يدري ماذا يفعل هل يذهب لصديقه ويجره إلى الجدار هل يكشف نفسه للقناص فيموتا معا أم ينجو بنفسه ويشاهد صديقه ينزف حتى الموت.

الرجل الفضولي قرر قراراً خطيراً عكس كل الأخرين المتوارين وراء الستائر ، ذهب إلى خزانته رفع الملابس عنها فتألقت بألق غريب رآه رغم العتمة الحالكة التي تسبق الفجر.. ملمسها كان غريبا ...أحسها تهتز بين يديه تحرضه على فعل فاحش تقول له هيت لك تغريه بكل ما أوتيت من سحر ولكنها ليست له إنها لأخيه الذي لم يعد إلى البيت منذ شهرين ولا يعلم إن كان حياً أو ميتاً كل ما يعلمه أنه مع الجيش الحر ...

أحس بانتفاضة في جسده لا يعلم هل كانت بسبب البندقية أم بسب الانفجار الذي دوى خارجاً؟!! هل ستحارب حقاً سأل نفسه ؟!هل أنت قادر على القتل ؟!كيف ؟! كيف وهو مدرس علم اللاهوت الذي يحاضر طوال حياته عن التسامح والعفو والسمو بالأخلاق والترفع عن الخطايا ؟! هل سيقتل لماذا ؟! لأجل سوريا أم لأجل حيه أم لأجل بيته أم لأجل أخيه الغائب أم لعلها من أجل القتيل الممدد في وسط الحي أم من أجل الآخر الجريح أم من أجل ذلك الكلب الكسيح أم من أجل كرامة ديست أم أجل انسانية أهنيت ونساء اغتصبن وأطفال يتموا وعائلات تشردت وشعب بأكمله قطعت أوصاله ؟!! هل سيقتل ليتخلص من القناص ؟أم سيثأر لموتاه ؟ أم ليحمي شعبه ؟!! هل يذهب إلى القناص أم ينتظره ليأتيه ؟! هل يصوب إلى قلبه أم إلى رأسه ؟ّ أله قلب ؟!

هز المكان انفجار أكبر من السابق ..ارتجت جدران المنزل ..أخذ البندقية ونزل إلى حيث الرجل الجريح والرجل الصحيح ..لكنه لم يجد أيهما ..وجد بضع أرجل وأيد ورؤوس محترقة متناثرة هنا وهناك ورغم أن الهلع أصابه ولم يصدق عينيه إلا أنه بقي قابضاً على بندقيته ...

كان الفجر قد بزغ وبدأ يوم القناص الجديد ،أطلق القناص رصاصة باتجاهه فرد عليه برصاصة، وكانت تلك المرة الأولى التي لم يدر فيها خده الأيسر لأحد ...وفي اليوم التالي لم ينع أحد ثلاثة مسعفين قضوا نحبهم أثناء تأديتهم عملهم ولم ينع أحد قناصاً مات أيضاً أثناء تأديته لعمله .... ذكروا أرقاماً لم يهتم بها العالم كثيرا ..وحدها البندقية من نعتهم جميعاً.