نحن لا نودع الشهداء

يحيى بشير حاج يحيى

نحن لا نودع الشهداء

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

خرجت القرية تستقبل محمد علي ، لكم هي فخورة به ؟! فهو أول معلم من أبناء القرية ، سيعلم فيها

كان وحيد والديه ، ملء سمع و بصر قريته ، تنظر إليه بعين الإكبار ، و يتمنى كل واحد فيها أن يبلغ ابنه ما بلغه الأستاذ الجديد

إن أحدهم يقسم لك صادقا : إنه لم يمر على قريتهم معلم كالأستاذ محمد ، و يستدرك حديثه : ليس لأنه ابن قريتنا فنحن مر علينا معلمون كثيرون ، و لكن لم يكونوا يشبهونه في إخلاصه و صفائه !.

و يأتي صوت آخر : محمد علي - ما شاء الله - ولد عاقل ، لقد أدى فريضة الحج ، مع أن كثيرين ممن هم في عمر أبيه لم يفكروا بعد في أدائها ؟!

لقد عاد قبل ثلاثة أيام ، و لم يبق أحد في المنطقة إلا جاء ليسلم عليه .. و يلتفت يمنة و يسرة ، و يهمس : جاءت الحكومة في طلبه ، و سألوا عنه في فترة الحج و نحن لا ندري لماذا ؟ و لكن قيل : إنه ذهب إلى الحج بدون إجازة من دائرته .

الحاج إبراهيم : يا أبا خالد ! كم قلت لك ، إن تبليغات مديرية التربية للمعلمين تأتي عن طريق مخفر الشرطة ، و هؤلاء الذي جاؤوا ليسوا شرطة ، إنهم مخابرات ...

أبو خالد مستغربا : تأتي خلف الأستاذ ، لا أكاد أصدق ؟! هو لم يفعل شيئا !

- أنت لا تصدق بأنهم من المخابرات ، و مع ذلك أقول لك : إنهم من الوحدات الخاصة جاؤوا إلى القرية بلباس مدني !

أبو خالد [مغاضبا] : لا تقل هذا يا رجل ، فتشيع على الأستاذ الإشاعات

- أنت حر ! صدقْ أو لا تصدق !

و نظر أبو خالد إلى ساعته : هيا بنا ، فلم يبق على أذان الجمعة سوى نصف ساعة

الحاج إبراهيم : هيا .. فلعلنا ننفرد بالأستاذ بعد الصلاة و نبلغه ذلك

انتهت صلاة الجمعة ، و وقف أبناء القرية كعادتهم عند الباب الخارجي للمسجد ، و خرج الأستاذ يسلم عليهم ، فلا يكاد يتركه واحد منهم ، حتى يستوقفه آخر و يعرض عليه مشكلة أو سؤالا ، أو أمرا ما ؟!

وقف الحاج إبراهيم و صاحبه أبو خالد غير بعيد ، يريدان الانفراد بالأستاذ

- أستاذ محمد علي نريد أن نكلمك كلمتين !

و همس أبو خالد بما سمع ، و اعترض الحاج إبراهيم ، و أكد أنهم من الوحدات ، و ببراءة أهل الريف قال في حماس يا أستاذ ! صحيح أنك أعلم منا و نحن أميون ، و لكننا أخبر منك بالحياة ، لقد سمعت قبل يومين أنهم يعتقلون المعلمين المتدينين ! نحن نرى ألا تأتي غدا إلى المدرسة .

- المدرسة ؟! قال محمد علي : إذا من يجمع الطلاب في الصباح و يدخلهم إلى الصف ، فزميلي في إجازة صحية .

الحاج إبراهيم : الآذن يفعل ذلك ! خذ إجازة مثلا .

- و لكن يا حاج إبراهيم لم يبق لي إجازات ، و خاصة أن إجازة الحج طويلة ، و كذلك لم أخبر الموجة التربوي ...

اطمئنوا .. اطمئنوا .. فلن يحدث إلا الخير !

أبو خالد : أنا خائف عليك يا أستاذ ، فهؤلاء غادرون و الذي يروح لا يعود ؟!

ابتسم الأستاذ محمد علي و هز رأسه : و لكنني يا أبا خالد ! لن أذهب إلا مرة واحدة فيما لو حدث أي شيء !

الحاج إبراهيم : حفظك الله يا أستاذ ! و الله أنت قرة عيوننا و نحن نخشى عليك حتى من النقل إلى قرية أخرى

و غابت شمس يوم الجمعة .. و أشرق فجر يوم جديد و أنهى محمد علي صلاة الفجر في المسجد ، و عرج على والديه لعلهما يحتاجان إلى شيء ، و قاربت الساعة السابعة و النصف .. نهض مودعا ليتجه إلى المدرسة ، و دخل التلاميذ و لم يمض وقت طويل حتى جاءت أصوات لغط من ساحة القرية ..

أبو خالد ، مهرولا يتقطع نفسه : يا أستاذ محمد ألم أقل لك .. فقد جاء الأوغاد ... إنهم الوحدات نعم أعرفهم ، أنا رأيتهم في المدينة المجاورة قبل شهرين هم الذين قتلوا ابن نائل ، و سحلوا جثته في الشارع العام .

ألقى الأستاذ محمد نظرة سريعة على تلاميذه الصغار .. عيونهم الصغيرة تدور وهم لم يفهموا شيئا كثيرا من حديث أبي خالد ، و لكن لهجته و إشاراته و نفسه المتقطع ... كل هذا يشير إلى أن في الأمر شيئا !

فتح النافذة و وثب باتجاه ساحة المسجد ، وقبل أن يخرج أبو خالد من المدرسة سمع أصواتا تقترب .. من هنا ! من هنا يا سيدي ! إنه وصل إلى أول انحدار الوادي ، و بلهجة متعجرفة صاح الملازم : لا تستوقفوه ..أطلقوا النار مباشرة ، و بغزارة لا يهمنا أن نأخذه حيا ؟!!

و انطلقت العيارات النارية و تدحرج الأستاذ محمد علي يتخبط بدمائه .. تراكض أهل القرية .. وصل أبو خالد .. فتح الأستاذ عينيه  ! ألم أقل لك يا أبا خالد ، إنني لن أذهب معهم إلا مرة واحدة .. و أطبق جفنيه .. وصل عساكر الوحدات ، حملوه في السيارة و اتجهوا به إلى المدينة المجاورة ، و القرية ذاهلة لا تدري ما تصنع ؟! لم تكن أمه العجوز لتنتظر طويلا .. و قد بلغها الخبر .. فجعلت تركض حافية القدمين باتجاه الطريق الزراعي لتصل إلى المدينة ، أو توقف سيارة القتلة ..

رُبطت جثة الأستاذ خلف سيارة عسكرية ، و جعل العساكر يُخرجون الناس من المقاهي و يوقفون آخرين في الطريق و هم يصرخون ! انظروا .. انظروا .. لقد قتلنا رئيس العصابة .. نحن رجال الأسد! هات خمسة فناجين قهوة للشباب على حساب ..

الأم تصرخ ، و جثة محمد علي تجرها سيارة الزيل العسكرية أما القرية فقد لبثت ذاهلة .. إنها المرة الوحيدة التي لم تخرج لاستقبال الأستاذ أو وداعه .. لقد استقبلته معلما ، و فرحت به عريسا ، و هللت له حاجا و معتمرا ..

و لكنها عجزت عن أن تشيعه شهيدا !