إني رسول الله
إني رسول الله
محمد الخليلي
اختلطت حمرة وجهها بكدرة صفراء أحالت شحوبها إلى شبح مقهور، تجيل بنظراتها يمنةً ويسرة ، ثم لاتلبث أن تحوقل وتقول سترك يارب هل يُعقل أن أبقى وحيدة هنا في مكان لاأعرف أحداً ولايعرفني فيه أحد .
وياترى كيف حال مرافقتي التي لم يُسمح لها بعبور الحدود رغم أنني قلت للضابط : ياأخي أنا جريحة مصابة في ركبتي وهذه ابنة أخي مرافقة معي كي أُعالج في المستشفى الإسلامي بعمان . لكن لا جرحي النازف ولا الحمالة التي أنقل عليها والتي كادت أن تنطق عني لشدة ألمي لم يشفعا لي ولم يقنعا الضابط بإدخال قريبتي لمرافقتي أثناء فترة علاجي .
ياالله ماهذا القلب المتحجر ؟! قال لي : هي كلمة واحدة إما أن تدخلي وحدك أو أعيدكما معا إلى حيث الجزار الذي هربتم منه . فقلت فوراً : وأفوض أمري إلى الله فلأذهب للمشفى وحيدة شريدة .
ولكن من ذا ياترى يرافق البنت الصبية المرافقة وحولنا غابة من الذئاب فما وسعني إلا أن أقول لها أستودعك الله الذي لاتضيع ودائعه ، اذهبي ياحبيبتي والله لن يضيعنا ، قبَّلتها وقد أغرقتها بفيض من دموعي وأنا أقول في نفسي ظننا أننا خرجنا من بلد الظلم إلى بلد العدل ، ولكن يبدو أن العدل قد أودع في المتحف منذ أمد بعيد .
هذه كلماتها الأولى بعد أن رأتني واقفاً قرب سريرها حيث لاتعرفني ولا أعرفها . فقط كنت أخذت اسمها من الممرضات اللاتي يعنين بالجريحات السوريات .
فغرت فاها مشدوهة وهي تتمتم من أين لك بهذه المعلومات عني وأنا لم أرك قبل قط ؟1؟
لم أقل لها أنني جمعت بعض المعلومات عنها من طاقم التمريض ومن بين كلماتها التي كانت تتمتم بها وهي لاتعي ماتقول ؛ فقد بدت في حالة من الضياع والهذيان ، فالممرضات يردن اصطحابها لغرفة العمليت وهي تسألهن عن كنه الموضوع فهي قروية من بصر الحرير في مدينة درعا السورية ولم تك قط قد دخلت المشفى ولم ترى الملائكة بلباسهن الأبيض إلا في المسلسلات التلفزيونية .
قالت لي هؤلاء الممرضات مثل بناتي والله أحببتهن كثيرا لشدة المعاملة الحسنة التي لقيتها منهن ، روحوا الله يرضى عليكم ويزوجكم . فقالت لها واحدة ولكنني متزوجة ياخالة سعاد ، فأجابتها الله يسعدك ويبعثلك 12 ولد ، فضحكن جميعهن حتى الثمالة ، ثم قلن لها : ياالله على غرفة العمليات كفاك هروبا وكأنك صغيرة بنت ست سنوات وليس ستين ، أنت تماطلين بنا هربا من العملية وتلوذين بقربيك كي لانضعك على السرير النقال ، والله باين عليك ياحجة مو قليلة .
فاستشاطت غضبا ونطقت بأغلظ الأيمان والله لاأعرف هذا الرجل ، أقسم لكم أنني لم أره البته قبل هذه اللحظة فقط قبل قليل فتحت عينيَّ فرأيته يقف بجانب سريري أيتها اللئيمات .
رنت ضحكات الممرضات في أرجاء المستشفى وهن يقلن لبعضهن هذي الحجة سعاد إما أنها تضللنا أو أنها تهذي من شدة ألم جرحها النازف ؛ فهل يعقل ألا تعرف هذا الرجل الزائر وهي التي تتحدث معه منذ ماينوف عن نصف ساعة ؟!
قالت بصوت متهدج رجولي كنت أحسبكن أميرات ولكنَّكنَّ تبدون الآن عندي ماكرات بلبوس ملائكي ، اسكتن أنا سعاد البادي من درعا والكل يعرفني في البلد ، والصغير والكبير يحترمني ؟
ماإن التقطتُ من فيها أهم المعلومات الضرورية حتى هرعت إلى طابق جرحى الرجال ودخلت على جريح أعرف أنه من بصر الحرير وقلت له ياداود هل تعرف فلانة ؟ فأجاب بلهفة وهل وصلت المشفى ؟ فأجبته : إنها في الغرف260 من طابق النساء وخلال دقائق سينقلونها إلى غرفة العمليات وإنها تشعر بالقلق الكبير إذ لاأحد يرافقها وتشعر بوحشة وخوف شديدين .
صرخ داود وهو الجريح الذي يرقد على سرير الشفاء لأكثر من شهر بالجريح الذي بجانبه قم ياأحمد فقد وصلت خالتك سعاد ... اصحَ فورا والحق بها قبل أن تدخل غرفة العمليات فقد منعوا دخول مرافقتها إلى الأردن وهي لوحدها في المشفى .
كان داود يتحامل على الجراح التي تكسو جسمه فيده مضمدة وقد قطع إصبعان منها ورجله اليمنى محروقة وممزقة وأذنه مخزوقة ووووو
وصابونة رجله اليسرى ذابت أثناء الانفجار وقد تورمت وحرقت أيضا ، ولكنه أصر على أن ينبه جاره الذي كان أيضا أجريت له عملية في عينه اليمنى التي أصابتها رصاصة غدر من قناص .
فرك أحمد عينه المصابة ناسيا آلامها سائلا : خالتي سعاد وصلت المشفى ؟
ثم هب واقفا وقال لي أين هي دلني عليها ؟ وخلال ثوان صعد من الطابق الثاني إلى الثالث حيث ترقد الخالة وأنا أحاول جاهدا أن ألحق به ولكن أنَّى لي وهو ابن العشرين وأنا ناهزت الخمسين ؟1؟
كان عناقا ممزوجا بالدموع والآهات وهي تقول أحمد لم أرك من شهور كيف عينك ؟ فيرد ليس المهم عيني بل أنت كيف حالك ؟ فتختنق الكلمات في حلقها مردفة لايهم حالنا نحن العجائز فنحن لايتعدى دورنا الطبخ للجيش الحر وإيواءهم ، ولكن أنت عليك أن تشفى بسرعة كي تلحق بركب المجاهدين فعينك التي فقدتها لاتشفع لك بالقعود عن النصرة ياولد ، ولا أعجبتك نومة المستشفيات وبدك تجبن عن الجهاد ؟!؟
وهما يتبادلان أحر المشاعر في سيل من الكلمات والعبرات حاولت أن أنسلَّ من الغرفة لأكمل مشواري في جولتي التفقدية على الجرحى السوريين الذين لاأعرفهم رأتني من طرف خفيٍّ فقالت تعال ، كيف تغادرنا ولمَّا تقل لي من أنت ؟
فأجبتها وقد تجلدتُ وأخفيت مدامعي خلف نظارتي : إني رسول الله ، فابتدرتني : لم أفهم ، فهي التي لم تتح لها ظروف التعليم المتوسط فأردفت أنا رسول رب الرحمة ثم استدرت وخرجت إلى الغرفة المجاورة وسمعت صوتها يرن في أذنيَّ : روح الله يوفقك .....الله ....... الله ............