بغدادية
عبد الواحد محمد
جاءتني في منامي.. بفتنتها الومضية.. تهمس في أذني.. بعباراتها الحميمة (وش لونك حبيبي).. وهي تضمني بصدرها الدافئ.. وخصلات شعرها ترفرف بعيني، وحنايا وجهها الخمري يرسم ملامح أعرفها.. لا أخطئها، فمن لم يقرأ لها قصيدة.. لا تدركه شمسها.. ولا ارتوى من دجلتها وفراتها.. ولا خرجت منه تنهيدات موسيقية برائحة العنبر. وهيل استكانة الشاي، ورائحة شوائها، ربما كنت في حاجة لقبلة الحياة، من فمها القرنفلي، لكنها رمز للحياء، وللعفة، وصوت للعقل، فعادت لي طروباً، تغني كما لم تغنِّ منذ عقود!
ارتدت عباءتها المطرزة بتراث الأجداد، وخرجت تبحث لي عن الدواء، بعد وعكة صحية ألمت بعمودي الفقري، عندما شعرت بنومي غير المعتاد!
وهمس سكناتي، يعتصرني دون بوح، وقرار!
داعبتني كالوردة، في حدائق المنصور، وأبي نواس، والرشيد، فوجدتني مهموماً من كثرة العرق، رغم برودة الشتاء!
وبين أناملها البضة، وضعت حبة بيضاء، وأخرى جيلتينية حمراء، والثالثة كانت فيتاميناً مقوياً، فعادت لي بهجة الديار، وأنا أرتشف من كأسها الكرستالي..
مردداً حبيبتي، بغدادية..
حبيبتي بغدادية..
من فضلك اسمعيني، فأنا نشوان بوجودك معي، لا تجهدي حركاتك، فجسدك هو محراب يؤمنا جميعاً، ومنك سافرت لكل بلدان العالم، لكي أقرأ بردية بقائك عفية، وشابة، ورائعة الحسن تنفذ من خلجاتك، فكنت كل قصائد بلقيس وعشتارية، رغم كل أوجاع الزمن؟
ومن تآمر عليك لتكوني الشمس بلا عبق!
لتكوني الزهرة بلا رائحة!
لتكوني صوتاً واهناً بلا جواز سفر!
فكنت عيونك، وكاتم إسرارك، رغم وقوعي في الأسر مراراً، وتكراراً، لكن كان بقائي حياً، من صنع لوحاتك التشكيلية، التي تزورني دوماً، بلا موعد..
بغدادية
بغدادية
بغدادية
نطقت باسمك متيماً، وعاشقاً، ومناضلاً، كما لم أنطق بغيره، رغم كوني مصري الأب والأم، فمنحني بعض الأحبة هوية فيها أنت الوطن؟
وانهمرت دموعي، يوماً بعد يوم، عندما غاب طيفك، وحل في منامي صوت بلكنة لا أعرفها، لا أفهمها، لا تمنحني حق النداء..
وحق فيه كل قصائدك الأرجوانية، التي حفظتها عن ظهر قلب!
توقفت عن السير معهم، وابتعدت رغم كثرة الأشواك في أيديهم اليسرى؟
وفي قلوبهم سهام تقتلني؟
هددوني بكل وعيدهم، وسمومهم، ولم أستسلم لهم، لأني أحبك دون دجل وشعوذة، وكثيراً ما كتبت دون رغبة في الكتابة؛ فالمحرك النفسي كان همساتك التي تناديني في مصر وخارجها، مستوحياً من لوحاتك السريالية عالماً يرسم بمقلتيه رائعتك البغدادية.. فتذكرت عجوزاً مصرياً، كان يمر بجواري، يوماً ما، متكأ على عصاه الخيزران، يحكي لي عن شبابه الذي ولى وحبيبته التي زوجته نفسها دون ولي وخاتم وأسورة ذهبية، بل اكتفت أن تكون فضية، رغم اعتراض أهلها وعشاقها وأعراف زمانها.. فتمردت عليهم بقلب كبير، فكان لها سفينة النجاة حتى الرمق الأخير، أطلعني على صورتها الرمزية بردائها النيلي ورموشها الكحيلة وملاءتها السمراء التي منحتها بهاء كثيراً من كل عواصمنا العربية التي تاهت بين مد وجزر، لتقتلع كثيراً من أشجار الزيتون!
وبعد غياب عشرة أعوام تمتم لي بصوت شاب.. لم يوارها الثرى، ولن يواريها حتى يلتقيا سوياً في عالم يقال إنه بلا عودة؟
وتمتم: يا سيدتي إنه الحب بلا ثمن؟
فكانت حبلى له بكل ذكريات عشق لم يستطع بعد؟
احتضنت العجوز وقبلت يده كأنه أبي الذي رحل منذ ثمانية أعوام، وكان العجوز من أهل المغنى فمنحني هدية ثمينة.. عوده الموسيقي بعدما عرف بقصتي، وتنبأ لي بعودتك إلى منامي، بلا تأشيرة سفر؟ وملاحقات أمنية؟
فكتبت في التو واللحظة رسالة بعنوان (اشلونك حبيبتي بغدادية، اشلون الأهل، الأصدقاء)، وكل دروبك التي قرأت عنها صغيراً ومراهقاً وشاباً رغم الوجع الكبير والهالات السوداء من محترفي التزوير والأكاذيب.. بأنك تنتحلين كل صفات من يرقص بقدم واحدة!
لذا لم أعشق السياسة وكتابها، بل عشقت الغناء والرسم بالكلمات والسفر إلى كل ديارك لكي تؤميني إلى صلاة طال انتظارها!
همسات تذكرتها في آخر سطور شاعرنا الذي لم يرحل، خزعل طاهر المفرجي، وهو يوصيني بك، ربما يعرف بفراسة من سيغادرنا لسفر طويل.. إنني متيم بك بغدادية ذات الضفائر الطويلة! والحلي الذهبية التي تزينين بها طرحتك الحريرية، ويديك المنقوشة بحناء (زكوتو)، وكعوب قدميك التي تفوح منها رائحة نخيلك، فهما رمز لكل معابدك القديمة، والتي حاولوا أن يسلبوها منك ومنا، لكي تكون لهم ذليلة، فعصفت بهم العاصفة، وكنت على باب المعبد الكبير تدافعين معي عن بقاء بغداد!
شاكو
ماكو
متمتماً بهما رغم سهادي في غربة تلاحقني، وماء كاد يجف دون إخطاري، فعدت ومعي كلمة من قاموسك كل الزين عيوني!
أدلل عيني، أدلل عيني، من وحي سكنات، عاشق الغناء ناظم الغزالي، لا من وحيك، الذي أغرقني في نوم بلا أرق، في وطن بلا خوف، في جلسات تدفئينها لمجرد أنك خطوت فيها بقدميك، وحلو أسمارك؟
هيهات من عذريتك، فألحانك جاذبة، بلون بشرتك ورموش مقلتيك التي فيها سمير أميس، لا تغني وحدها بل تغني معك، لكونك امتداداً لها بغدادية؟
لا نوم بدونك، ولا سفر يحلو بغير أنيسك، ولا عمر فيه بقاء دون دواءك، لا تترددي وأنت بجوار دجلة أن تدعي لكل من فارق محبوبته أن تعود له، وتعودي لي لكي تؤمي صلاتي الغائبة؟
بغدادية
بغدادية
لن أعرف النوم مرة ثانية.. ثالثة، سأكتب عن ديارك مرة ومرات، حتى يرحل من يرتدي ثوباً مثقوباً برائحة من عرجوا عن دجلتك وفراتك بأمر هلامي؟
اشلونك حبيبتي
اشلونك حبيبتي
ومعك منامات لاتعرف غير دروبك، فلغة العشق هي من سمائك، والكبرياء من سماتك، التي كانت دوماً ملاذي..
بغدادية
بغدادية