لقطة من كهوف الذاكرة
لقطة من كهوف الذاكرة
نايف عبوش
كان الصبي يزامل والده إلى أعمامه، كلما اشتاق الوالد لزيارتهم ،أو صادفته مناسبة، تستوجب ذهابه إليهم. ولان أبناء ألاعمام كثر، وهم أصلب عودا، حيث يرعون مواشيهم، ويحصدون القمح، ويسقون الرعاء من البئر، وعهدوا ركوب الخيل والحمير، فقد كان يريد الصبي أن ينشد إليهم،بزياراته المتكررة لهم،يشجعه في ذلك الحاح الختيارة أمهم،لكي يتركه معهم، يرتع ويلعب. وكان الوالد يستجيب لطلبهم، فيتركه عندهم لبضعة ايام في كل مرة. فهو يشتاق للصبي،عند غيابه، كما تشتاق له الأم والأخوات،إذ غالبا ما يتذكرنه،في أوقات تناولهن الطعام،وعندما يأوين إلى الفراش،بسردهن حكايات مفترضة،عن حراكه، في حضرة أعمامه،تسلية لشوقهن إليه.
اعتاد الصبي،اذن،منذ بواكير حياته،أن يدلف صوب أعمامه،في القرية الأخرى،سعيا على قدميه،أو ممتطيا الحمار،خلف احدهم،في قافلة الملاية،بطريق عودتهم، من استسقائهم ماء شربهم من النهر.لكنه لاحقا،كان يتيممهم راكبا دراجته الهوائية، التي اشتراها له والده، في نقلة إركاب نوعية،لا عهد له بها من قبل.
في تواجده معهم،لم يكن احد من أبناء عمومته ليناكفه، في ركض إلى مرعى، أو سبق إلى بيدر،او فصل للحملان.فالختيارة العجوز، زوجة عمه،هي الأم الكبرى للجميع في القرية،وهي التي تحيطه بحنان زائد،اذ تمنحه حصة الأسد من لبن الغنم،وتسقيه الشنينة أولا،حالما تروب شجوتها اللبن المخضوض،وتجزؤه اكبر قطعة من اللحم،من جفنتها المحلقة،عندما تقدم الطعام الجمعي للربع، وتعزز حصته من الزبدة، عند فطور الصباح،إضافة لما اعتاد بفضوله هو، أن يلحسه من رغوة حليب الماعز،التي تتفاقع، من قدر النحاس العتيق، عندما تحلب العجوز الغنم في المساء. ومن فرط حرص، كان لا يفوتها، أن تعقد طرف ردائه، بطرف ازارها، أو ذيال دشداشة احد أبنائها ،من بين أكثرهم يقظة، لكي تطمئن،أن لا ينهض الصبي، من كابوس حلم مزعج، عند نومه بينهم ليلا، فيسقط من دكة النوم على مرابض الغنم. كانت العجوز لا تؤاخذ الصبي بجريرة ما يبدر من ابناء عمومته من مشاكسة احيانا،بل تسارع لتنعته بالذكاء، وتلقي عليه من أوصاف التطلع، الشيء الكثير، وتتنبأ له بمستقبل واعد،وهذا ما جعلها تستجلي طالعه،عند قارئة الكف،حيث كان الغجر يترددون موسميا، إلى الديرة،للاطراب ،وقراءة الطالع،والتطبيب بالاعشاب، والتسول.
وما ان اكتسب باحتكاكه بأبناء عمومته،تجربتهم في رعي، وسقاية الشياه من بئر بطن الوادي،وقيادة الجرجر،وركوب الحمير، حتى اعتاد كل تلك الأجواء،مسايرة للحال،وإثباتا للوجود،فدأب على الخروج معهم للحصاد،عند الصباح الباكر،مستأنسا بما كانوا يرددونه من أغاني الحصاد،في اداء جمعي مقصود،يستفز حماسهم،فيضع حدا للخمول،الذي يتسرب إلى همة البعض، بقسوة حرارة الصيف القائض.لكن العجوز كانت تغذ السير خلفهم، بعد أن أنجزت مهماتها، بخض اللبن، وكنس دوار الغنم، حاثة خطاها بتسارع متواتر،يطوي الأرض تحت قدميها طيا،على امل ان تلحق بهم على عجل،وهي تحمل معها،جود الماء،على كتفها الأيمن،وشجوة اللبن على كتفها الايسر، لسقايتهم حالما يشعرون بالعطش.
كانت النسوة، يتولين جمع الحصيد، الذي تتركه مناجل الحصدة ،وراءهم ظهريا،بعد كل حدرة حصاد لهم،في أكوام منتظمة،تسمينها (القمر)،فلا يتركن منها قشة شاردة، ولا سنبلة واردة،إلا وضبنها،في نضد متداخل، يكون عصيا على الريح العاصف،إذا ما صادف ومر به،من أن يذروه هشيما.وتنفرد الختيارة من بينهن،من شدة حرص،بجمع حزمة من الحطب بطريق عودتها من الحقل إلى البيت،بعد فراغها من لم الحصيد،فتقوم بربطها من منتصفها، بحبل عتيق سائب النهايات،تمسكه بيديها عندما تحملها على ظهرها،في رجعتها،كي توقدها نارا تسجر بها تنور الخبز،حتى لا تهدر مخزون وقودها،من بعر الأنعام، التي دأبت على جمعه من مرابض الغنم،وادخرته في زريبة خربة، لفصل الشتاء. انها صيرورة حياة،حفرت ايقونتها في كهوف الذاكرة،لتحكي قصة معاناة السلف، للأجيال المترادفة،التي ربما تراها بعين العصرنة،تراجيديا يصعب تصورها.