مجانين قريتنا
مجانين قريتنا
د. جابر بن محمد العمري - الهند
اعتاد ابني الوحيد فهمي ، وهو ابن أربع سنين ، ألاّ ينامَ إلاّ مصغِيًا إلى قصّةٍ أقصُّها عليه ومسائلا إيّايَ بعض الأسئلة عمّا يستمع إليه . ومرّة سألني عن المجانين الذين كانوا يخيفوننا أيّام صبانا . اتّقدت الفكرة فى ذهني وأنارتْ ذاكرتي بنورٍ جديدٍ فتجلّت فيها الأيّام البعيدة المنسيّة حتّى أخذ كلُّ واحدٍ من المجانين القَرَويّين يلوحون أمامَ عينيَّ واحدًا فواحدًا بمظاهرهم التى كانت تخيفنا نحن الصغار نهارًا وتؤرِّقنا ليلا وتضحكنا كبارًا. لمَ يشتاقُ الصغار إلى رؤيةِ المجانين واستماع قصصهم رغم خوفهم منهم ؟ لعلّ المجانين فى نظرهم لمّا يبلغوا سنّ التمييز ، فيرونهم صغارا سواء بسواء ولكنّهم ما أدركوا حقيقة ما فى أنفسهم وذلك لكِبَر أجسامهم وغرابة أثوابهم وشعوثة أشعارهم ولحاهم.
أصغى فهمي إلى كلامي مرهفًا أذنيه .
-نعم ، كان فى قريتنا مجانين كثيرون جعلوا مرورنا فى شوارعها تجربة راعبة. واللهُ أدرى بمدى رعبي حين ذهابي إلى المدرسة الصباحية والمحلاّت فى الشوارع الموحشة. واللهِ لا أدري كيف اعترضوا سبيلي كلّما خفت بلقائهم؟ إنّ أعجب الأمور هو أنّ لكلّ واحدٍ منهم شخصيّته الفذّة ومعاملاته الخاصّة التي تميّزه عن الآخرين.
فأمّا المجنون الأوّل فرجلٌ نحيف لا يلبس إلاّ إزارًا قذِرا ورداءً يبقى دائمًا على عاتقه. يأتي من قرية غير بعيدة وكان لا ينظر إلى وجوه الناس بل يمدّ نظره دائمًا إلى الأرض ولا يؤذي الآخرين إلا إذا أثاروا غضبه.
-كيف يُثار غضبه ؟ تساءل فهمي
-"أن يُرسَم خطـٌّ عريضٌ على الشارع "
- فماذا يصنع ؟
- "يَرمي بالأحجار من يرسم الخطـّ "
- كيف يضرّ ذلك الخطـّّ العريضُ المجنونَ ؟
- "يحسبُه جدارًا -فيما أظنّ -يمنعه من العبور"
-وكيف يتجاوزه؟
-"يتجاوزه في الظلام إذْ لا يراهُ حينذاك"
- أبي ..... هل رسمته يومًا ؟
- " أبدًا لا ، نحن الصغار كنّا مُشفقين منه . الكبار هُمُ الذين اتخذوه لعبًا ولهوًا. وفي بعض الأحيان وذلك أيّام اشتداد جنونه ، كان يثور غضبه حتّى إذا مشى أحدٌ أمامه في الشارع عرضًا. تجوّل هذا المجنون الغريب في قريتنا لمدّة سبعة أعوام أو ثمانية. ثمّ غاب ثمّ بعد مرور سنوات قليلة. قيل إنّه مات. وجاد بروحه لتهيم في عالم أوسع ممّا كانت تهيم فيه,
-هلْ كان هناك مجنون آخر يا أبي؟
-بالتأكيد يا بُنيّ....... كان يمشي في شوارعنا مجنون ثانٍ يشدّ رأسه بمنديل. نذكر تاريخه كما حفظنا من ألسنة أترابنا في المدرسة فحكَوْا أنّه صار مجنونًا من أجل اعتقاله لمدّة تزيد على اثنتي عشرة سنة وكان من قبلُ رجلا لا بأس به في عقله ورشدِه ثمّ قَتل بعضَ أعضاء أسرته لسببٍ مّا فقبضته الشرطةُ. ثمّ أطلِق من المعتقل رجلا مخبولا لا يكلّم أحدًا ولا ينبس بكلمة. وكنّا نحن الأطفال نلاحظ أصابع يديه التي تبقى مشدودة دائمًا وما لمحناها مفتوحة أبدًا. وكان أهل الذكر من أترابنا يقولون إنّه يضمر في قبضتيه شَفرتين حادّتين ليهاجم بهما على الأطفال لو سنحت له الفرصة. ولذا كنّا نخاف منه أكثر ممّا نخاف من المجنون الأوّل. وكان يدخل المسجد فلا يتوضّأ بل يخوض مباشرة في الصلاة وكانت صلاته أيضًا صلاة خاصّة به وإذا أخذ يسجد فلا يفرغ منه إلاّ بعد عشرين سجدة على الأقلّ في كلّ ركعة. وكان يغيب من قريتنا فلا نراه إلا بعد ثلاثة أو أربعة أشهر وكان جنونه شيئا معتدلا لا تفاوت فيه.
ـ ماذا جرى له أخيرًا........ يا أبي؟
ـ لا نذكر يا بُنيّ أين هلك وكيف هلك.
ـ هل كان هناك مجنون ثالث ..... يا أبي؟
ـ أجل يا بنيّ ..... كان مجنون ثالث..... سمين الجسم عظيم البطن كثير الأكل. أكبر ميزته القُمْصانُ والأزرُ التي يلبسها واحدًا فوق الآخر حتى أصبح مضربَ المثل في قريتنا للذين يلبسون أكثر من ثوب واحدٍ. كنّا نراه منذ طفولتنا متجوّلا في قريتنا وفي القرى المتجاورة. واعتاد أن يحضر كلّ وليمةٍ طُفيليّا فلا يقتعد إلاّ بجوار الفرن ولا يترك مقعده إلا إذا أكل ملءَ سبعة أمعاء. ولم نرَ مرّة واحدة أصحاب الولائم في قريتنا يبخلون عليه ولا يردّونه عنها. وكان يتجوّل في قُرانا يبحث عن الولائم فلا يفوت واحدة منها كأنّه يحضر كلّ مجلسٍ يتعيّن فيه يوم القِران في قريتنا. وكنّا نحن الصغار نتحدّث في أمره فيقول بعض أترابنا أنّ هذا المجنون لم يغتسلْ بعدما جُنّ. ولذا يلبس الأثواب واحدًا فوق الآخر. كلّما اتّسخ ثوبٌ لبس ثوبًا عليه دون أن يخلع الثوب القذر.
كان يمشي في طرقات القرية ببطنه الكبير وجسمه السمين وملابسه القذرة يشمّ الولائم حتى أصابه سوءٌ في جسمه فصار على مرّ الأعوام صغير البطن نحيف الجسم فلا يبقى عليه من خاصّيّته إلاّ الملابس القذرة المتراكمة. ثمّ بعد أشهر قليلة قيل إنّه انتقل إلى جوار ربّه وليس عليه إلاّ الأقمشة البيضاء التي كفّن بها.
ـ "أحبُّ هذا المجنونَ أكثرَ من السابقَين" قال فهمي
ـ لم ؟
ـ "ليس فيه شيء يروِّعنا إلا أكْلته تلك. هل كان هناك مجنون آخر..... يا أبي؟
ـ بالضرورة.... ألم يدركك النوم؟
ـ لا ... زال نومي.... واشتقت إلى أن أسمع قصص المجانين الغريبة.... احكِ يا أبي... وإلاّ جُننت
ـ كانت مجنونة تأتي من قرية بعيدة وهي عمياء في الخمسينات من عمرها تقتعد رواقَ بعضِ المحلاّت وتأخذ تتكلّم عن أسرتها في صوتٍ رفيع فتسرد قصّتها حينا وتسبّ وتلعن أقاربها حينا آخر. ما رأيناها مرّة واحدة تجلس ساكتة عن السرد والسبّ واللعنة. لا ننسى نحن الأطفال ذلك المساء الذي اضطرم فيه جنونها اضطرامًا فنزلتْ عن الرواقِ إلى وسط الشارع واعترضت سبيل المارّة والمراكب مضطجعة فيه وكانت تصيح بلسان بذيء وهي تسبّ أقاربها وكلّ من يحاول أن ينحّيها إلى جانب الشارع. كان يومًا مشهودًا للأطفال وتحيّرْنا لمسمع ألفاظٍ ماجنةٍ فاحشةٍ وتحيّرَ كبارُ الرجال ونظروا إلينا نحن الأطفالِ الذين احتشدوا غير بعيد من المشهد ولذا بذلوا قصارى جهودِهم لإزاحتها عن الشارع ولكن فشلوا . وكان الشارع يزدحم بالمراكب والمشاهدين قليلا قليلا فاتّصلوا بالشرطة واعتقلتها وما رأيناها بعد.
تأمّلتُ فهمي فإذا هو ينظر إلى وجهي بعينين شاخصتين.
ـ أحبّ رجالَ المجانينِ لا الإناثَ....... يا أبي
قالها فهمي متثائبًا وبعد قليلٍ استغرق في النوم وفيما كنت أحاول أن أذكرَ قصص مجانين آخرين.