حذاء الرئيس
محمد شوكت الملط
"1"
فى صباح يوم شتاء شديد البرودة ، الساعة السابعة والنصف يدخل فريق
مستشارى الرئيس إلى القصر الرئاسى المنيف ، يتوجهون سريعا صوب قاعة
الاجتماعات الفخمة .
كل عضو من أعضاء المجلس الإستشارى يجلس فى مكانه المحدد ، يضع أمامه ملفه
الخاص ، به أوراق ومستندات مهمة ، تحمل معلومات دقيقة ، سيعرضها على
الرئيس .
كالمعتاد يجلس الأعضاء معاً قبل بدء الاجتماع بمدة طويلة ، لابد من
الاستعداد النفسى ، إنهم يتهيأون لاستقبال الرئيس ، يرتبون أوراقهم ،
ينسقون فيما بينهم ، يؤكدون عما سيتحدثون فيه ، يحذرون من الخروج على
النص ، وإلا...
خارج القاعة الجميع على أُهبة الاستعداد ، الإضاءة ، المقاعد ،
التكييف ... ، ليكون هذا الاجتماع حسبما يرغب الرئيس ، وإلا سمعوا أو
رأوا ما يخشونه ، وأقله الطرد من قصر الرئيس بلا عودة ، وفى حالة غضب
الرئيس يكون الطرد إلى مكان مجهول ، ربما لاتُرى فيه الشمس ولا تطؤه قدم
إنسان .
فى الموعد المحدد فى الساعة التاسعة صباحا ، يدخل الرئيس مكتبه منتشيا
فخورا كعادته ، تعلو وجهه ابتسامة ، الجميع فى انتظاره ، كل فى مكانه
المحدد ، كل قام بما هو مكلف به على وجه الدقة .
الهدف الوحيد من هذا الاجتماع هو مناقشة التعديل الوزارى المرتقب ،
مستشارو الرئيس سيقدمون له أسماء الوزراء المقترحين ولكل وزير أربعة
بدلاء ، وأمام كل اسم مختصر لسيرته الذاتية ، يختار الرئيس من يريد
ويرفض من يريد ، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
شرع كبير المستشارين فى عرض الأسماء الأساسية والاحتياطية لخمس وزارات ،
لم يرد الرئيس واحدا من المرشحين الأساسيين ، لمعرفته الجيدة بتلك
الشخصيات ، فقد تعامل معهم من قبل فى وزارات مختلفة.
ارتسمت على وجوههم ابتسامات عريضة ، لم يصدقوا أنهم انتهوا من اختيار
خمسة وزراء فى توقيت قياسى.
استأنفوا عرض الأسماء المقترحة ، عرضوا اسم الوزير المرشح الأساسى لوزارة
التربية والتعليم ، الذى ظنوا أن الرئيس سوف يوافق عليه ، دون أى
مناقشة ، إنه كنزعظيم تفخر أى دولة بأن يكون هذا الرجل من مواطنيها .
السيرة الذاتية لهذا الشخص مختلفة ، يمتلك مواهب فذة ، ذكروا اسمه ،
مؤهلاته ، خبراته، الرجل من أشهر العلماء عالميا فى مجال التربية
والتعليم ، ترك أمريكا لأسباب خاصة - بعد أن قضى فيها ربع قرن - على
الرغم من النجاحات الهائلة التى حققها هناك ، لم يوافقوا على رحيله إلا
بعد إصراره .
ذكروا تاريخ ميلاده ، محل إقامته الحالى ، محل الميلاد ، غاب عن مستشارى
الرئيس أن ذلك الشخص ينتمى إلى ذات المنطقة التى ينتمى لها الرئيس ، و
كذلك فإن سنة ميلاده هى سنة ميلاد الرئيس .
فجأة تغير وجه الرئيس ، شرد ذهنه لبرهة ، تغير وجهه ، بدت عليه علامات
الغضب الشديد، صرخ صرخة مدوية ، كأن سكينا اخترق صدره.
ما الأمر - سيادة الرئيس - ؟ (على استحياء سأل كبير المستشارين) .
لم يرد عليه الرئيس .
سيطر السكون على المكان ، لم يجرؤ أحدهم على أن ينطق بكلمة .
مرت بضع دقائق ، بصوت جهورى نطق الرئيس : احضرو لى هذا الشخص حيا أو
ميتا الساعة الثانية والنصف بعد متنصف هذه الليلة .
تركهم الرئيس دون أن يخبرهم بفض الاجتماع .
"2"
على صوت الرئيس المدوى هُرع إلى قاعة الاجتماعات كبار رجال القصر ،
استدعوا قادة الأجهزة الأمنية المختلفة ، أربع جهات أمنية شاركت فى وضع
التقارير الأمنية عن جميع المرشحين للوزارة ، أساسيين كانوا أم
احتياطيين ، ومن هذه التقارير قُدم للرئيس مختصر السيرة الذاتية لكل
مرشح .
كل من له صلة بهذه التقارير أصابه الفزع والخوف ، مما قد يحدث له، نتيجة
هذه السقطة الكبرى ، تبادلوا الاتهامات ، كل يلوم الآخر ، كل ينفى
تقصيره ، بعد مدة زمنية ليست طويلة ، ذهبت آثار الصدمة ، اتفقوا على
مناقشة الأمر بموضوعية ، توصلوا بعد مناقشات طويلة إلى أن أحدهم لم
يقصر ، أجمعوا على أنهم سيتحملون المسئولية معا ، وليكن ما يكون .
الأمر فيه سر ، لايعرفه أحد من البشر إلا الرئيس ، ومع ذلك فسوف يتأكد كل
منهم من المعلومات التى وردت فى تقريره .
سريعا وبعد أقل من ساعتين ، اجتمعوا مرة أخرى ، أكدوا جميعا أن الشخص
المطلوب إحضاره حيا أو ميتا ، ليست له انتماءات دينية أو إيديولوجية أو
سياسية ،إلا أنه رجل حقق فى حياته نجاحات منقطعة النظير .
قال بعضهم لبعض : ربما تكون هذه النجاحات هى مشكلته الكبرى ، وعلينا أن
ننفذ الأوامر طاعة للرئيس ، أمروا قوات الأمن بإحضاره فورا.
"3"
بعد تناوله وجبة العشاء جلس الدكتور "أسعد" وسط أفراد أسرته ، فى الطابق
الثانى من الفيلا التى يمتلكها ، بأحد الأحياء الراقية وسط العاصمة ،
أثناء متابعتهم نشرة الأخبار ، علموا أن الإعلان عن التشكيل الوزارى
الجديد سيُعلن عنه خلال ثمانى وأربعين ساعة .
بصورة عفوية سأل الابن الأصغر: ماذا ستفعل يا أبى لو عرضوا عليك منصبا
وزاريا ؟ . لم يفكر الدكتور "أسعد" طويلا فى الرد .
أجاب : بالطبع سأرفض .
ولماذا يا أبى ؟( سأله ابنه مرة أخرى) .
أجاب الأب : يا بنى ...السياسة فى بلادنا شعارها " سمك - لبن -
تمرهندى" ، لو أصبحت وزيرا فسوف أكون بمثابة سكرتير للرئيس أنفذ أوامره ،
حتى ولو غير منطقية ، فى بلادنا المهم ارضاء الرئيس لا ارضاء الضمير.
بنبرة حزينة أكمل الأب حديثه قائلا : يا بنى... العالم من حولنا يتقدم
ونحن فى تقهقر ، أتعرف لماذا ؟ ، لأننا نعرف طريق التقدم ولا نسير فيه ،
ونعرف أننا نسير فى طريق الفشل ونصر على عدم التراجع .
فى بلادنا الرئيس يهدم كل ما قام به سلفه وكذلك الوزير ، ليست لنا
سياسات واضحة...
لم يكمل الرجل حواره مع ابنه ، فوجىء مع باقى أفراد الأسرة بمكبرات الصوت
تنادى : على الدكتور أسعد الحضور أمام باب منزله فورا ودون تأخير،
وإلا سنقتحم المكان ، خمس سيارات مصفحة محملة بالجنود المددجين بالسلاح ،
بصحبة العديد من قيادات أمنية ، تحيط بالفيلا من جميع الجهات ، دون أن
يُغير الرجل ملابسه خرج ، وهو لا يكاد يصدق ما يجرى.
اقتادوه بلا احترام أو تقدير لمكانته العلمية أو الأدبية ، دون النظر
لحالته الصحية أو لكبر سنه ، الرجل يكاد يصاب بالجنون ، لا يدرى ما السبب
فيما حدث ، ومهما حدث فهل هذه هى الطريقة اللائقة لاستدعائه لأى جهة ، لم
يخبره أحد عن السبب وراء هذا الهجوم التترى ، بل لم يحدثه أحد من الأصل .
"4"
فى إحدى الغرف الضيقة المظلمة ألقوا به، بعد أن غطوا عينيه بعصابة
سوداء ، تركوه لأكثر من ساعة ، أصابته قشعريرة ، الجو شديد البرودة كأنه
يجلس عاريا فى شارع من شوارع موسكو .
مازال الرجل مندهشا مما يحدث له ،عاش أكثر من ربع قرن فى أمريكا لم يرَ
ما يراه الآن ، تذكر ما كان يقرؤه عن وحشية التعذيب التى يلاقيها
المعارضون للنظام فى بلاده ، لكنه لم يشارك هؤلاء المعارضين ، لم يلتقِ
بأحدهم ، لم يراسل واحدا منهم ، ماذا جرى ؟ .
فجأة فُتح باب الغرفة ،سمع صوت خطوات تقترب منه شيئا فشيئا، فاذا بشخص
يقف أمامه، يوجه له الحديث قائلا : يادكتور نحن نأسف لما حدث لك ، وهذا
الأمر خارج عن إرادتنا ، إننا نعلم عنك كل صغيرة وكل كبيرة ، ونحن
متأكدون من أنك لا تعادى النظام ، ولست من المعارضين ، بل ولا تعتنق أية
توجهات سياسية مخالفة لنا .
رد عليه الدكتور " أسعد" بصوت خافت : إذاً أين هى المشكلة ؟ .
قال : لم تكن لك مشكلة مع أحد ، ولكن واضح أن لك مشكلةً مع سيادة الرئيس
نفسه ، نحن لا نعرفها ، ولم يخبرنا بها ، وهذا هو سبب المجىء بك ،
فلتخبرنا عنها .
تحدث الدكتور "أسعد" بصوت مرتعش : أنا ليس لى مشكلة مع أحد من البشر ، لا
مع الرئيس ولا مع غيره ، ولم تربطنى فى يوم من الأيام علاقة بشخص
الرئيس ، لا من قريب ولا من بعيد ، اللهم إلا أنه كان زميلا لى فى
التعليم الأساسى ، طفلان فى فصل واحد ، لمدة ثلاث سنوات ، قضيتها فى
قريتى ، ثم انتقل أبى بأسرتنا كلها إلى العاصمة ، ولم تعد لى علاقة
بقريتى إلا فى المناسبات فقط ، ولم أعد أتذكر شيئا سوى أسماء التلامذة
زملائى فى الفصل ، ومنها اسم الرئيس خماسيا .
تنهد قليلا ثم استأنف حديثه ...
وعلمت كما علم الناس باسمه يوم تولى حكم البلاد ، ومرت الأيام والسنون
ولم ألتقِ به فى يوم من الأيام ، ولم أسعَ للقائه ، لم أتفاخر بزمالتى
للرئيس أمام أى شخص حتى أبنائى .
الشخص المجهول الذى يسمعه الدكتور "أسعد" ولا يراه هو الوحيد الذى تحدث
معه بأسلوب فيه شىء من الاحترام ، هذا الشخص فى نهاية حواره معه حاول أن
يُهدئ من روعه ويطيب خاطره ، أخبره بأنه سيقابل الرئيس بعد أقل من ساعة
بملابسه التى حضر بها ، وقد صارت رائحتها كريهة ، حذره من الخروج على
النص.
إذا دخلت على الرئيس فلا تتكلم ، إلا إذا طلب منك الكلام أو سألك سؤالا ،
التزم بتوجيهات رجل الأمن المرافق لك ، ولا تضعنا وتضع نفسك فى مواقف
محرجة ، ختم الرجل حديثه معه ، تركه وحيدا فى الغرفة وخرج .
"5"
اقترب الوقت من الساعة الثانية والنصف صباحا ، كان الدكتور " أسعد" قد
أُصيب بالإجهاد والتعب من كثرة وقسوة ما تعرض له من مواقف مهينة ، ساءت
حالته النفسية ، لم يُصب من قبل بمثل هذه الإهانات التى تعرض لها هذه
الليلة ، لم تنسه هذه المواقف اللاإنسانية القاسية التفكير فى أسرته ،
إنه قلق على زوجته وأولاده ، ماذا حدث لهم ؟، هل يُفعل معهم ما يُفعل معى
الآن ؟ ، هل يتعرضون لمثل هذه المواقف المهينة كما أتعرض لها ؟ أسئلة ظلت
تراوده فى ذلك الوقت العصيب.
وجاء الموعد ، موعد لقاء الرئيس ، ولكنه لقاء مختلف ، الرئيس هو الذى
طلبه ، وحده سيلتقى بالرئيس دون أن تُنصب الكاميرت لتصوير اللقاء ، حتى
الملابس ليتها غير لائقة وفقط ، لكنها ملابس رثة قذرة ، ليست من قيمة
الرجل العالم .
بعد أن رفعوا العصابة عن عينيه ، أدخلوه إلى غرفة واسعة ، إضاءة خافتة فى
مدخلها ، وفى آخرها يظهر من بعيد رجل يجلس على مقعد ، يمد رجليه على
منضدة صغيرة منتعلا حذاءً فخما ، الأضواء الشديدة مسلطة صوب الحذاء بصورة
مركزة .
على الرغم من الارتباك الذى تملكه ، إلا أنه تذكر ماركة هذا الحذاء ،
إنها الماركة الأمريكية الشهيرة ، تذكر ثمنه ، الذى يقارب العشرين ألف
دولار أمريكى.
أدار عينيه بعيدا عن الحذاء ، ليرى منتعله ، تبين بكل وضوح ، إنه فخامة
الرئيس ، التقت عيناه بعينيه ، لجزء من الثانية ، نظر إليه الرئيس نظرة
استعلاء ، لم يعره اهتماما ، همت نفسه بالكلام ، يرغب فى أن يشكو للرئيس
ما حدث له من إهانات ، لكنه تذكر وصايا الرجل الذى تحدث معه ولم يره.
بعد أن تأكد أن الزائر قد رآه رأى العين ، أشار الرئيس بيده لرجل الأمن
المرافق للدكتور " أسعد" ، إشارة تفيد بأن أخرجوه فورا ودون تأخير ، لم
تدم تلك المقابلة سوى دقيقتين أو أقل.
"6"
فى تمام الساعة الثالثة إلا ربع فجرا ...ألقوا بالدكتور "أسعد" بعيدا عن
القصر الرئاسى ، بما يزيد عن مسافة ثلاثة كيلومترات .
وجد نفسه وحيدا ، فى مكان بارد موحش ، يكاد لا يرى شيئا ، المكان يكسوه
الظلام الدامس والصمت المرعب .
قال لنفسه : من الممكن أن أموت هنا ولا أحد يرانى أو يعرف بوجودى ، وليس
معى هويتى الشخصية .
أحس بالدوار، ثارت نفسه للقىء ، كاد يفقد توازنه ، حاول أن يلملم أشلاء
نفسه ، التفت يمينا والتفت يسارا ، عسى أن يجد سيارة تقله إلى بيته ،
ليس معه مال ، لا يوجد معه رفيق ، ملابسه التى لم يسمحوا له بتغييرها ،
باتت وكأنها ملابس شحاذ ، أو ملابس مجنون يسير هائما على وجهه فى
الشوارع .
وقف فى عُرض الشارع أكثر من ساعة ، يعانى من قسوة البرد القارس ، من شدة
الخوف ، ثم جاءت سيارة ، اصطحبه قائدها معه ، بالطبع لم يعلم حكايته ،
وإلا ما أركبه سيارته.
كانت الأسرة فى انتظاره ، قلق ورعب و خوف ، أجروا اتصالات كثيرة
بالعديد من الأقارب والأصدقاء ، من ذوى المراكز المرموقة والمناصب الكبرى
فى البلاد ، غير أن جميعهم لم يردوا ، إلا واحد منهم أجاب على استحياء ،
تحدث بصوت خفيض مرتجف وقال : إن الموضوع أكبر منه ، ولا يستطيع أن يفعل
شيئا ، وإلا أُطيح به من منصبه ، وأُلقى به فى المكان المعتاد للمغضوب
عليهم من النظام.
"7"
أمام باب الفيلا ، الزوجة والأولاد ينتظرون ، لم يناموا ليلتهم ، وكأنهم
كانوا يشاركون الأب مأساته ، التى عاشها وحده الليلة الفائتة ، ظلمة ما
بعد الفجر تودع الكون ، تلفظ أنفاسها الأخيرة ، بدأ ضوء النهار يتجلى ،
يبدد تلك الظلمة حتى يستطيع بقدر الله أن يمحوها ، فيرى الناس بعضهم
بعضا .
لم يمر وقت طويل ، رأوا شبح رجل خمسينى يتجه صوبهم ، تدريجيا استطاعوا أن
يتعرفوا عليه ، إنه الدكتور" أسعد" ، هُرعوا جميعا إليه ، بمجرد أن وصلوا
إليه أُغمى عليه ، سريعا طلبوا له سيارة الإسعاف ، انطلقت به إلى
المستشفى ،إلى غرفة العناية المركزة أدخلوه.
مرت ست ساعات طوال ، والرجل ما بين الحياة والموت - كما قال الأطباء عن
الحالة - ، تدريجيا تحسنت حالته ، اطمأنوا عليه ، نقلوه إلى إحدى غرف
المستشفى ، دخل عليه أفراد أسرته ، لم يكلمهم ، ولم يرد عليهم إلا
بالإشارة بيديه ، رغم قدرته على الكلام .
الموقف ليس موقف كلام ، ولكنه موقف تفكر وتدبر ، ماذا حدث لى ؟ ولماذا
حدث ؟ ولماذا معى أنا بالذات ؟ ، ولماذا حدث ذلك الآن ولم يحدث من
قبل ؟ ، وما معنى قولهم : " إن مشكلتك مع الرئيس نفسه ؟ " ، وماذا فعلت
أنا مع الرئيس ؟ ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأس الدكتور "أسعد" بضع ساعات
دون أن يجد لها إجابات .
مازال يفكر ويعيد التفكير ، يتذكر ويعيد التذكر من جديد ، يتذكر أول يوم
رأى فيه شخص الرئيس وهو طفل صغير ، تلميذ فى المدرسة ، فى التعليم
الأساسى ، ينقب عن المواقف التى ربما نتجت عنها مشكلة مع هذا الطفل
الصغير ، ربما اعتدى عليه بالضرب ، أو أصابه بسوء وهو غير متعمد .
مازال يعصر تفكيره ويجهد عقله ، أملا فى الوصول إلى موقف أغضب الطفل
الصغير الذى مرََّ أكثر من أربعين عاما ، ولم يذهب عنه غضبه .
أربعون عاما أو أكثر مدة زمنية طويلة جدا ، كيف يستطيع الإنسان أى
إنسان ، ولو كان عبقريا أن يُرجع الذاكرة إلى الوراء كل هذه المدة ،
ليأتى بموقف بين طفلين صغيرين .
فجأة نطق الرجل بصوت جهورى ، كاد يزلزل مبنى المستشفى : " يوريكا " كما
صدع بها " آرشميدس"- أى وجدتها - عندما توصل إلى قانون الطفو، ماذا وجدت
يا دكتور "أسعد" ؟ (سأله كل من حوله فى الغرفة ).
تحدث بهدوء وبصوت خفيض دون انفعال وقال : تذكرت ذلك الموقف الذى حدث بينى
وبين الرئيس وهو طفل صغير ، عدت إلى المدرسة بعد أن قضينا الإجازة
بمناسبة أحد الأعياد ، وأثناء وقوفى معه فى فناء المدرسة ، قلت له : انظر
إلى حذائى الجديد لقد اشتراه لى أبى بمبلغ كبير ، هذا الحذاء لا يلبس
مثله أحد من التلامذة فى المدرسة ، هذا ما قاله لى أبى ، عندها تمتم بعض
الكلمات التى لم أسمعها ، تركنى مبتعدا عنى ، وهو ينظر إلى حذائه القديم
المهترىء ، تركنى وأنا لا أفهم لماذا تركنى ؟ .
صمت الدكتور "أسعد" برهة ثم استأنف حديثه قائلا : الآن أتذكر أن الموقف
لم ينتهِ عند هذا الحد ، وإنما استمر حتى دخلنا الفصل ، فإذا به يشكونى
إلى المُدرسة أننى قد تفاخرت عليه بحذائى الجديد ، وأننى قد عايرته
بحذائه القديم المتهالك ، الأمر الذى لم يحدث ، نفيت للمدرسة مزاعمه
أمام التلاميذ ، صدقتنى المدرسة وكذبته ، وسط ضحكات زملائنا ، ومن يومها
ابتعد عنى ولم يكلمنى مرة أخرى .