الرجل البخاخ
زينب الخالدي
كان شديد الخوف والحذر( يمشي الحيط الحيط ويقول يارب الستر)
كلما تجمهر الناس وزاد عددهم عن خمسة أشخاص ابتعد عنهم خوفاً من أن يتهم بالتظاهر، شعاره في الحياة : (ابعد عن الشر وغنيله ، والباب إلي بيجيك منو الريح سدو واستريح ) كان يصحو كل ليلة على كوابيسه حيث يرى مشهداً يتكرر يومياً رجال ملثمون يشبعونه ضرباً ويقولون له :اعترف . كان يصرخ من شدة الألم لكن صرخته تظل مكبوتة داخله لاتنطلق، فيصحو مذعوراً على حركة قدميه تركلان وترفسان تقاومان بشدةحالة الاختناق التي يشعر بها ،إنه بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه فغرغرة الموت مازال طعمها في حلقومه ،يشهق ، ويأخذ نفساً عميقاً ثم يقول :(اللهم اجعله خيراً ... اللهم .......) لم يكمل جملته بعد حينما اقتحموا عليه المنزل انهالوا عليه بالهراوى وجروه ككيس بطاطا بعد أن قيدوه وألقوه في مؤخرة السيارة كان يظن أن مايحدث معه إنما هوامتداد لكابوسه المرعب لكن بعد أن تحركت السيارة مبتعدة عن بيته الذي بدأ يصغر شيئاً فشئيئاً أمام ناظريه قبل أن يغلق أحدهم عينيه بعصابة ليعيش في ظلمة قسرية قهرية أيقن بأن ما يحدث معه إنما هو واقع أفظع من كل كوابيسه الليلية؛ فالآلام التي يشعر بها حقيقية ورائحة الدم اللزج النفاذة لايمكنه إنكارها ،والتأوهات المخنوقة التي تنبعث عنوة ممن حشروا معه ليست خيالات ولا أوهاماً ،والسيارة التي تدور في متاهة الأزقة والحارات الضيقة التي خبرته وخبرها حيث ملاعب طفولته وحاضنة آماله وآلامه وطموحاته وانكساراته تؤكد الحقيقة المرة التي كان يتحاشاها ويخشاها .
تقف السيارة وينقل من فيها مصحوباً بالسباب والركل والضرب (وين الجنب إلي بيوجعك يا أبو الشباب ) ويحشرالجميع في مكان ما تحت الأرض حيث رطوبة الدم المتعفن ورائحة الموت تزكم الأنوف ،يـُضربون بأعقاب البنادق ويؤمرون بالهتاف تأييداً للنظام تحت التهديد بالتعذيب والإهانات يخرج الصوت خافتاً فيصرخ أحدهم :" علـُّوا صوتكم يا كلاب شاطرين تعلو صوتكم في المظاهرات بس ..إحنا رح نهفي أصواتكم ع الخالص يا ........" يقهقه وتتعالى قهقهات رفاقه حتى تغطي على صوت الهتاف .. طعنات خناجر أغمدوها في خاصرة رجولتهم وكرامتهم .. والآن حان وقت التحقيق وما أدراك ما التحقيق ؟ لا أدري إن كان من سوء أو حسن طالعه أنه كان الأول جروه إلى مكان قصي ..رموه .. رفعوا العصابة عن عينيه ولكن الظلام مازال سيد الموقف إلا من مصباح يتأرجح يمنة ويسرة يثيرأعصابه ، يحاول استكشاف المكان كلما تحرك الضوء هنا وهناك إنه أشبه مايكون بغرف العمليات أجهزة وآلات وروافع وقاطعات وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان فجأة لمح شيئاً يحدق به قد يكون وجهاً ،ولكنه والعياذ بالله لايشبه الوجوه الآدمية حدق فيه اقترب واقترب حتى لامس أنفه البارد بسمة فاترة صفراء او لايدري مالونها تعلو أسناناً بل أنياباً قاطعة رائحة نفسه النتنة تنفث وهجاً من قذارة الكلمات والعبارات وقبل أن يستوعب الموقف جاءته الصفعة من حيث لا يحتسب ثم وصل الصوت مجلجلاً : " اعترف " خذلته قدماه المرتجفتان وبدأ قلبه بالخفقان تصبب عرقاً.. تساءل في نفسه بماذا أعترف ؟ استجمع ذاكرته لعله فعل شيئاً ما ، لعله أخطأ دون أن يدري ..خانته الذاكرة كما خانته شجاعته من قبل ...تحشرجت الكلمات على لسانه ، وقبل أن يفتح فمه جاءته اللكمة الثانية أحس بشيء يتطاير من فمه وبصوت يصدر عن أنفه يعقبه سيلان هو بالتأكيد ليس مصاباً بالزكام ! يتكرر الطلب "اعترف " علامة استفهام كبيرة ترتسم على وجهه الذي خلا من الملامح بسبب الضربات واللكمات المتلاحقة ، "حسنا لاتريد الاعتراف نحن نعرف كيف نجبرك على الاعتراف ، ستعرف الآن كيف تبخبخ الشعارات على الحيطان ،رح نعلمك البخبخة على أصولها ،لأنو إحنا رح نبخبخ روحك وبالألوان شو رأيك ؟ " تذكر خوفه الذي ظنه يوماً قادراً على حمايته وإبعاده عن الخطر وغاص في حلمه حيث الصرخة مازالت عالقة في حلقه نظر فإذا الدم يتقاطر من كل جزء في جسده وبقعة الد م تزداد اتساعاً لتغطي شاشة أحلامه ومساحة وطنه الذي لايشبه الوطن ابتلع خوفه ، واستنشق رائحة دمه المراق أحس برعشة تسري في أوصاله رفع رأسه عالياً ونظر بعينين مفتوحتين عن آخرهما في الوجه المحدق به بصق عليه بكل قوته وجلجلت من فمه صرخة الحرية العالقة في حنجرته ،صرخة خرجت من أعماق الأعماق هزمت الخوف وفجرت المكان، صرخة زلزلت أركان الوطن حينما انتقلت كأمواج تسونامي عبر الأثير لتغطي مساحة الوطن من أدناه إلى أقصاه
في صباح اليوم التالي وجدت جثة على قارعة الطريق هي بقايا جثة لامعالم فيها لوجه إنسان مذبوحة كالخراف مبتورة الأعضاء مشوهة بفعل سادي انتقامي وبقرب الجثة عبوة فارغة لبخاخ أحاطت بها الدماء التي شكلت لوحة فسيفسائية ارتسمت فيها خريطة الوطن بالأحمر القاني وقد نقشت عليها حروف من نور
" ح...ر... ي...ـة "