وردة حمراء
عبد القادر كعبان
-1-
بعد يوم روتني مثقل بحمى الحوادث تمكنت من الهروب.. الهروب من مقر تلك الجريدة.. توقفت عند إشارة المرور الحمراء فلمحتها.. كانت إمرأة تحمل طفلا صغيرا يطوق عنقها بحرارة ويداعب خصلات شعرها الأشقر.. تسرع الخطى بكعبها العالي لتقطع الطريق.. تبدو عليها ملامح الإستقرار و التحرر .. أحسست لحظتها أنني فعلا مجرد مسكينة تتلاطمها الأحداث.. أحداث تلك المدينة التي كانت بالنسبة لي كالمحور الذي تدور حوله حياتي.. أحسست بتعب شديد، ليس لأنني عملت كثيرا، بل لأن انفعالاتي و مشاعري كأنثى تائهة أنهكتني..
إستوقفتني تلك اللافتة "مطعم الحياة".. سمعت صوتا داخليا يشير علي بالدخول:
- ألا تريدين تذوق طعم الحياة؟
دخلت دون مجرد التفكير في ما سمعته.. جلست في إحدى الطاولات الفارغة.. لكن لبرهة لفتت إنتباهي تلك المجلة المنسية.. لربما تركها أو تركتها.. لكن ما شدني هي تلك الصورة.. وردة متناثرة على الغلاف بلون أحمر قاتم.. قاطعني النادل:
- ماذا تشربين مادام؟
تلك الكلمة (مادام) جعلتني أحس كأنني مجرد فراشة تحتضر.. و أعتقدت أنني مصابة بخيبة أمل لمجرد كلمة باتت تتردد على مسامعي يوميا.. أجبته:
- قهوة لو سمحت..
عدت لأغرق من جديد في التفكير بطبيعة الحياة و بتلك الأحداث التي جعلتني أعيش هاجسا.. هاجس الخوف من مرور الوقت..
- قهوتك آنسة..
انتبهت لتلك الكلمة (آنسة) التي منحتي الأمل من جديد فلم أعد أتحسر على ضياع الوقت.. فهمت أنه علي أن أتفهم وضعي و العالم من حولي كامرأة.. إمرأة قوية تضج بالحيوية و النجاح.. لم تبلغ بعد الأربعين من عمرها..
فجأة شعرت بدقات قلبي تزداد خفقانا ربما حبا بالحياة.. تركت فنجاني بقهوته الساخنة.. أسرعت لدفع الحساب و خرجت لأكتشف تلك الشهوة.. شهوة الحياة..
-2-
عدت أمشي في شوارع المدينة.. ضجيج يملأ المكان كأنني أسمعه لأول مرة.. إنتبهت الى أن وجودي بمثل هذا المكان هو حقيقة واقعة مثل جسدي و روحي.. كثيرا ما كانت تدهشني حياة تلك الكائنات الحية المتشابهة.. تسير بنفس الإتجاه تحت توقيع يوم روتيني، بالرغم من أن كل واحد من تلك المخلوقات كان يحمل في داخله هموما حقيقية لا تظهر بشكل مباشر إلا من خلال ملامح مرسومة على وجهه.. أفقت على صراخ طفلة صغيرة تريد الحلوى و هي تردد و تصرخ باكية:
- أريد حلوى.. أريد حلوى..
انتبهت لتلك الكلمة (حلوى) وقلت بيني و بين نفسي:
- من بات يأكل الحلوى و يتذوق طعمها اليوم؟
تذكرت حين كنت طفلة و عمري لا يتجاوز الثامنة.. حضرت أمي قالبا من الحلوى المطلية بالشكولاطة التي كنت أعشقها كثيرا.. استعدت تلك الصورة.. صورة أبي القاسي الذي دخل فجأة يصرخ.. أنتم تأكلون الحلوى و أنا ألهث كالكلب وراء الخبز اليومي.. هوت صفعة على خد أمي.. بكيت من شدة الخوف فأخذتني أمي بين ذراعيها و هي تقول:
- متى سنذوق حلاوة الحياة يا إلهي؟
قاطعني سعال سيارة الإسعاف.. حالة شاذة.. أكيد أحدهم مريض.. ربما يحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة.. عاد الصوت الداخلي يصرخ مجددا:
- القمامة تطوق المكان.. القذارة و الضجيج.. أين هم الأصحاء وسط كل هذا؟
أجبته متساءلة:
أين غابت الوقاية؟ ما أجمل أن يتمتع الجميع بصحة جيدة.. لكن كيف يمكن أن يستوعب ذلك العالم اليوم؟.. شعار يتردد على الألسنة.. يردده صغار وكبار.. "الوقاية خير من العلاج".. كنت أسير وسط الشوارع و كأنني أجتاز طريق حياتي المهجور أرقب ظلال الناس الذين يمرون بجانبي وهي تهرب مني دون أن أستطيع الإمساك بها حتى وأنا أمارس تلك المهنة.. استعدت تلك الصورة التي نشرتها جريدتنا.. "الأحداث".. رجل عجوز يموت بعد عملية جراحية فاشلة.. لكن ما أثار انتباهي هو صورة ذلك القلب المريض الذي ينبض دما.. تذكرت ذلك الشعور الغريب الذي أحسست به لحظتها.. قلبي ينبض بقوة متخوفا من أن تتلبسه روح ذلك العجوز الميت.. ذلك الشعور جعلني أكتشف حقيقة قد تناسيتها: سر الحياة هو أن نحياها.. لكن عاد الصوت يطلق صرخات متتالية:
- أين غاب الضمير؟.. أين أصحاب الضمير يا ترى؟..
بقيت مأخوذة، ثم عدت من جديد للتفكير في هؤلاء الناس الذين لا يلتمسون أوجاع غيرهم و لا يشعرون و لو للحظة بتأنيب الضمير.. توقفت لأخاطب ذلك الصوت بانفعال:
- كيف يفكر هؤلاء البشر؟!..
تقلب ذلك الصوت المنبعث في قلق ثم قال:
- يصعب علي أن أشرح ذلك ولكن..هم يعبرون جسر الحياة من دون أن يلمسوا جوهر الأشياء من حولهم..
فكرت وقلت:
- ينقصهم الحب..
و عاد يصرخ:
- بل الحب الحقيقي و العاطفة الإنسانية النبيلة..
وقفت مرة أخرى كالتي تقف أمام لغز.. أجل لغز الحياة.. أيقظني رنين الموبايل من حلم اليقظة.. حدث جديد كالعادة..
- ألو.. ماذا حدث؟.. لقد استأذنت بالإنصراف..
قاطعني قائلا:
- لا زلت أنتظرك يا عزيزتي بعيدا عن الأحداث..
- آه.. آسفة.. ظننتها..
- "الأحداث"..
هو زوجي من كان على الخط.. متفهم عرفته.. لطالما انشغلت عنه بين الأوراق و الأحداث.. تساءلت لحظتها:
- ما هو لغز ذلك الرجل (زوجي) و ما سبب تفهمه المفرط؟! لما لا يثور كبقية بني جنسه من الرجال؟!
بعد تخرجي من الجامعة دخلت مهنة المتاعب فتعرفت عليه حين كنت أزاول مهنتي كصحفية.. رجل أعمال وسيم.. لكنه مسكين، أحبني و كانت "الأحداث" الثمن الذي دفعه للزواج مني.. لم يخفي مشاعره وأحاسيسه.. أما أنا فصحفية مباغثة كنت أعرف كيف أوقعه في شباكي.. عادت تلك الصورة إلى مخيلتي حين ضبطته يتأملني يوما بنظرات كلها شوق ورجاء ليقول لي تلك الكلمة التي لا زالت تخيف الكثيرين من أبناء آدم.. أحلم بالزواج منك و نعمل على التغيير.. تغيير حياتنا نحو الأفضل.. كان بمثابة هدية من السماء.. لطالما شجعني وعلمني معنى النجاح.. تلاطمتني أمواج "الأحداث" في بداياتي، لكن وجدته ينبهني إلى أن اليأس يفتح بابا للأمل و علي التحلي بالصبر لأكون صحفية لامعة.. حين أستعيد بذاكرتي تلك اللحظات، تبدو لي كحلم إنتهى لتوه.. عندئد عاد النقال يهتز وسط حقيبتي.. كنت قد نسيت العودة فهو لا بد ينتظرني..
-3-
وصلت أخيرا إلى شارع "الحرية" أين أسكن و زوجي باحدى العمارات.. توقفت للحظة في وسط الشارع و نظرت الى المبنى الذي نقيم فيه.. في طابقه الأخير.. لم يكن هناك أي بصيص من النور يظهر خلف خشب النوافذ المغلقة مع أن زوجي يتواجد هناك.. قلت في نفسي:
- أيعقل أنه قد نام بهذه السرعة؟!
نظرت إلى الساعة.. تمام الثانية عشرة ليلا.. تأخرت ككل مرة.. تنهدت و أسرعت الخطى.. أخيرا نقرت مفاتيحي الباب.. فتحت.. سكون رهيب.. حاولت تفادي إحداث أي صوت حتى لا أوقظه من نومه.. فاجأني:
- أخيرا وصلت لتغطية الحدث..
جو رومنسي حالم.. شموع تتلألأ أضوائها حول قالب حلوى مكسو بالشوكولا.. مشروبات غازية و كؤوس زجاجية.. و كأنه حلم..
فابتسم قائلا:
- كل عام و أنت بخير..
- ما الحدث..
- تقصدين المناسبة الكبيرة التي تجمعنا سنويا..
تذكرت.. كان اليوم تاريخ عيد زواجنا الذي تناسيته وسط الأحداث..
- آسفة يا حبيبي فقد نسيت ككل مرة..
فاجأني وهو يقول:
- دعينا الآن من النسيان!
أحسست كأنني دخلت عالما غريبا ظهر أمام عيني وسحرني.. و لم أكن لأستطيع أن أحلم أبدا بجو هادئ كمثل هذا الجو الذي قدمه لي من تناسيته لإنشغالي الدائم بمقر "الأحداث".. و جاء صوته الى أذني حاملا معه عالما من الذكريات و قال لي:
- من حسن حظي أنني قابلتك يوما!
ضحكت:
- بل أنا من هي المحظوظة لأجد من يتفهمني كغارقة وسط الأحداث..
فاجأني:
- هل تسمحين لي بتقديم هذه الوردة الحمراء لك..
لحظتها استعدت تلك الصورة.. صورة الوردة الحمراء المتناثرةعلى غلاف تلك المجلة.. مصبوغة بلون أحمر قاتم.. منسيةعلى إحدى طاولات مطعم "الحياة".. عندها تذكرت ذلك اللغز.. لغز الحياة.. الذي إكتشفت شهوته لتوي..
إنتهت..