الشيخ وتقنية – البالتوك -

الشيخ وتقنية – البالتوك -

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- وقف على شرفة منزله في الطابق الخامس الواقع قريباً من شارع / بولفار ناسيونال/ أشهر جادة في مدينة مرسليا الفرنسية، وحاول إطلاق العنان لنظراته علها تساعد عقله المكدود بما يفكر الوصول إليه من حلٍ لما بات وأصبح يلازمه ملازمة الظل، لكن مدى رؤيته اصطدمت بحواجز من الإسمنت كعلب الصفيح تحجب الرؤى وتحصر المرء في واقع محدود الأطر، دخلَ إلى غرفته وجلس على الطاولة التي تصور من ساعات أنها ستستضيف على سطحها ما يعصف به قلمه مما سيمكنه من إيجاد حلٍ لمعضلته التي تشتعل بين جنبيه .

وتذكر الأيام الخوالي، وعادت به الذاكرة إلى مرتع الصبا إلى مدينة تعز اليمنية، فما كانت الجدران في منشائه تقف حاجزاً أمام ناظريه، بل تلك اللقطة بالتحديد ذكرته بنافذة بيت شيخه الحجري، نافذة الديوان حيث يجتمع وثلة من إخوانه يرضعون من لبان الشيخ الشهد، يترأى لهم جبل صبر بشموخه وصدره الذي زرعت عليه قرى تبدو الأضواء فيه ليلاً كأوسمة مضيئة على صدر الأفق، تمتم بينه وبين نفسه سقى الله هاتيك الأيام .

قال في نفسه: لم أندم على الإقامة هنا في ديار الغرب، فأنا قد استشرت ثم استخرت، بما فيهم شيخي الجليل، ولا أزال أذكر عندما كلمته بحضور عدد من الإخوة على ما عزمتُ عليه، فقال : على بركة الله، وكيف كان رده على أخ من الحضور الذي أكد أن السعي للحصول على التخصص الدقيق لن يفيد إلا بالترقية الوظيفية، وأن شباب الدعاة في جهودهم للأرقى التخصصات، ما هي إلا أماني، في واقع محبط من الامكانات، ومحاربة مستـعرة لكل كفاءة من الدعاة، فقال له الشيخ: هذا من المثبطات التي ينفث بها شياطين الأنس، من ثم كيف فصلَ الشيخ  في الفرض الكفائي وفقهه، وعرج على صلاح الدين الأيوبي وجيله مثلاً ، وأنه من غراس أجيال من العلماء والمربين، وأن سر تخلف المسلمين تأخرهم في ركب التقنية واستعجال بعضهم، وأكد الشيخ في حديثه السالف أنه ما استشير في تخصص حياتي لداعـية إلا وشجعه عليه.

 وحمد الله أن مشروعه الاساس الذي جاء من أجله يسير بخطى متزنة، لكن الحياة لا يمكن لها أن تتوقف لتنجز منحى واحداً حتى يتم، بل تلقي بتقاطعات، وتروج بمدخلات تجعل أحياناً الحليم حيران، فهو رغم أنه مهندس كهربائي، ووفد لفرنسة لتكميل دراساته العليا، إلا أنه داعية تربى في حضن الشيخ الحجري، ولا يقدم على مصلحة الإسلام إن استدعى الأمر أي شيء .

فتح أحد أدراج الطاولة حيث ثمة بعض الرسائل بخط الشيخ، قبلها وأخذ يعيد قرائتها، وربما لعشرات المرات حظيت تلكم الرسائل بالقراءة، بعدما  قضى وطره العاطفي، عاد لما كان فيه، مع أن ساعة الحائط نبهته إلى إنتصاف الليل، قال في نفسه ليس من المهم التأخير، حتى لو صليت الصبح ثم  أنام .

نظر نظرة في ما كتب على الأوراق التي أمامه، فقد عزم على خط كل مسيرته الدعوية في الغرب ولو بشكل نقاط رئيسية،  بدأ بالنقطة الأولى وتطابق سماعه مع ما رأى، نعم الحرية سمة للمجتمعات الغربية، مما سمح  للدعاة للعمل بحرية، والنقطة الثانية التحق بركب الدعاة ممن يجمعهم معه نفس المشرب الدعوي، وأصبحت أوقات فراغه ملكاً حصرياً للدعوة، لكنها لم تكن مسارات نظرية، أو قليلة المؤنة كما عهدها، فهناك في بلده صلوات في المساجد، وطلب للعلم، ولقاءات أخوية، أما هنا في الغرب يخـتزل الإسلام العظيم كله في المركز فهو فضلاً عما تقدم، واجبات خدمية وتعلمية، تستهلك من أوقات الدعاة الكثير، ولا ينكشف ثقل الحمل إلا عند  َتغيب داعية ومحاولة إخوانه القيام بواجبـه إضافة لواجباتهم، وهذا ما حصل معه وأوقعه بالدوامة التي شغلت تفكيره أياماً وليالي .

فقد سافر داعية لبلده الأصلي لأمر طارئ، واجتمع الدعاة ورشحوه لسد مكانه، لميزات منها أنه في عطلة من الدراسة، ولتمكنه من التلاوة بشكل رائع، ولعلمه الشرعي، ظن بداية أن الأمر سهل، وأخذت الأيام تمر، وهو يقوم بواجباته الدعوية ومنها إصدار الفتيا،  وفي الليل يعكف على مراجعة ماقال من كتب الفقه، والتوحيد، والأخلاق والسير، فالإفتاء عملية متكاملة الفنون، وليست استشارات قانونية لحظر وإباحة، وبما أن المسلمين في الغرب هم شريحة حقيقية لأطياف المجتمعات الإسلامية تباينت الأسئلة، كان بادي الفرح بداية فقد فهم أن الأمر لا يعدو مراجعات ليس إلا، فغالب السؤال عن ترقيع الصلاة، وبعض الكفارات، ومما لقنه شيخه أن كلمة لا أدري نصف الجواب، وفي هذه النقطة ضرب الشيخ مثالاً دائم الحضور في ذهنه، عن الخليفة الراشد الفاروق رضي الله عنه، حيث مكث في فتيا ما يقارب الشهر، ورغم عدم تحرجه من قول كلمة لا أعلم، غير أنه مع مرور الوقت أخذت بعض الأسئلة في فقه النكاح وبعض أحكام المعاملات الأخرى،  تضطره لمهاتفت شيخه الحجري، وعد هذه نعمة أيضاً أن تكون له سبباً في سماع صوت الشيخ والأنس به، لكن تطور منحى التساؤلات، وعمق بعضها أبان أنه لازال على ساحل العلم مع أنه قرأ من المتون الكثير بين يدي شيخه، بل حتى الشيخ عندما أخذ يجيبه عبر الهاتف كان يحيله لمراجع ليست عنده وإنما سمع بها فقط من فم الشيخ حديثاً .

 وهو يتجشم تكلفة الاتصالات، ويعاني من عويص الفتوى، عاد الداعية صاحب الشأن فتنفس الصعداء ذلكم اليوم، و أزاح عن كاهله مسؤولية كبيرة وهموم متكررة، إلا هماً واحداً بقي لصيقاً في ذاته .

عند ذلكم الهم أدرك الثمن الذي دفعه لإتمام دراساته العليا، فقد أبعدته عن شيخه قبل أن يتم تحصيل ما ينبغي، ولربما إخوانه من طلبة العلم الذين كانوا معه وهم لا زالوا مواظبين على دروس الشيخ هم الآن وصلوا إلى الأفاق التي يعالجها، ويعاني منها .

ذلكم الهم أشبه بمن تعود شرب الماء البارد، وهو الآن يسير في حمارة قيظ ويعاني شدة العطش، فيكاد عقله لا يفكر إلا في الماء ولذة البرودة، نعم إن للعلم لذة وحاجة لا يدركها سوى من ذاقها، والشباب بما يمتلك من العزيمة تجعل قاموسه الذاتي خاليا من كلمة الصعاب، أما المستحيل فيظونون أنها كلمة خرافية لا تمت للواقع بصلة، وعلى هذا الاساس اعتكف في بيته طوال ذلك اليوم يبحث عن طريق التماس العلم من جديد، وبعقلية المهندس العلمية، أنزل المشكلة على الورق، وأخذ يفرض الفرضيات، ويختبر صحة كل افتراض، ومما دونه :

السفر لشهر كامل إلى بلده، لكنه استبعد هذه الفرضية، فالوقت سيكون موزعاً بين الأهل والأصدقاء والشيخ، كما أن مدة شهر ليست مدة كافية لبناء معرفي صحيح الأركان .

انتقل للفرضية الثانية وهي تخصيص ساعات للقراءة في أمهات المراجع، ومتى ما أشكل عليه شيء، يكتبه لشيخه للإجابة عليه، لكنه تذكر أنه أسلوب الصُحفيين، كما حذرهم منه الشيخ الحجري مراراً، وطول الزمن من ذهاب وعودة الرسالة يفقده الدافعية .

الفرضية الثالثة استعمال الهاتف، لكنه اختبر تكلفته الباهظة .

وضع القلم وقد أعيته الحيلة، ولجأ لرب القلم، قرر أن يأوي لفراشه، كاستراحة محارب على أن يستأنف المحاولات في الغد وما بعده، حتى يلهمه المولى الحل، وفيما هو يهمُ  بترك الطاولة نطق جهازه المحمول منبهاً لرسالة قصيرة، قرأها، فإذا بها من أحد إخوانه تدعوه لفتح برنامج المحادثة- البالتوك- بعد صلاة الفجر للمداولة في قضية دعوية مستجدة، وعليه مراجعة بعض النقاط الشرعية في المصادر، تخلى عن فكرة الهروب للنوم وتفرغ للاستعداد للمناقشة، يبحث عما طلبَ منه، وهو يفتح المراجع، تركها واتجه للقبلة ساجداً للمولى سبحانه سجدة شكر، إنها الإشارة لحل ما كان يعاني منه، بعدما أتم الموضوع المتداول بينه وبين إخوانه، إنتظر طلوع النهار بفارغ الصبر، ليهاتف شيخه الحجري ويخبره عن رغبته في مواصلة طلب العلم، وأن المولى فتح عليه بطريقة حديثة، وهي طلب العلم عن طريق برنامج المحادثة- البالتوك-، وبعد أن أفاض للشيخ عن الإسلوب الحديث، وميزاته، كانت مفاجأة الشيخ له أيضاً أن أحد أبنائه يملك جهاز حاسوب ومشترك بالنت، وبسماحة قلوب العلماء وتضحيتهم بأنفس ما يملكون خدمة للشرع الحنيف، حدد له الشيخ وقتاً، كل يوم أحد صباحاً ولمدة ساعة كاملة، ونصحه  بالدراسة بكتاب المنهاج للإمام النووي الذي كتبه بعبارة سلسة جمع فيه عصارة جهود المذهب الشافعي عبر ستة قرون، كما أنه حوى سبعين ألف مسألة، ومن شروحه المتأخرة ما تتضمن نتفاً من الفقه المقارن،  وهكذا استأنف صاحبنا اليمني التعزي طلبه للعلم على يدي شيخه الحجري رغم بعد المكان.