علبة التبغ

احمد يوسف ياسين

عانين - جنين

-:"اهلا وسهلا...اهلا وسهلا".كررها الشيخ عدة مرات حتى ظننت انه لم يعرفني.

" من اين انت ؟؟" سأل الشيخ.ولكن سؤاله لم يدهشني فقد بدأت أدرك ضعف الذاكرة الحديثة للشيخ ولكني عرفت أن سؤاله لم يكن لأنه لم يعرفني بل ليتأكد أني من قرية (س).

عرفته منذ حوالي سنة بالصدفة،وسرعان ما توطدت بيني وبينه علاقة قد تكون من طرف واحد فهو قليلا ما يلقي بالا بالذين يزورونه على قلتهم ،ومما وطد علاقتي به أنني اذ كنت صغيرا أحببت الجلوس الى العجائز وكبار السن وكثيرا ما كنت أقلدهم بتصرفات معينة، وكنت أشعر بمتعة كبيرة في الاستماع الى جدتي – رحمها الله- حين كانت تحدثنا حكاية ( نص نصيص) و(الكلب أبو فروة) في أيام الشتاء الباردة ونحن نتحلق حوق موقد النار وان كانت تلك الحكايات تدفعنا الى التبول في الفراش خوفا من الذهاب الى الخلاء.

كان جالسا بلحيته البيضاء وكوفيته السوداء و" القمباز" ، ابو العبد الشيخ الذي حفرالزمن أخاديد عميقة في وجهه الذي لوحته الشمس ، وغارت عيناه في حجريهما تنظران الى شيء بعيد ودائما خارج دائرة المشاهدة.

ــ: " هل نسيتني يا عمي أبو العبد؟ أنا من قرية (س)" قلت. وأنا أجلس على كرسي بلاستيكي بجانب السرير الذي يجلس عليه تفصلنا منضدة صغيرة وضع عليها بعض الأشياء.

تهتز علبة التبغ الصدئة في يده المرتجفة التي لم يبق منها سوى أوردة بارزة بالكاد يغطيها جلد رقيق.

ــ:" كنا مسافرين الى القدس ، وكان معنا أربعة جمال محملة بالزيت ، غربت الشمس ونحن في قريتكم ، نمنا في بيت المختار أبو ابراهيم ، تناولنا العشاء عنده وسهرنا حتى بعد منتصف الليل ، أما زال على قيد الحياة؟".

ـ:" توفي قبل أن أولد رحمه الله " قلت.

تأملت علبة التبغ ، تحسستها بأصابعي " في يدي الآن على الأقل ثلاثة أرباع قرن من التاريخ، من الحكايات التي ربما تحكى منقوصة أو بغير ما حدثت فعلا، ترى كم من الأيدي حملت علبة التبغ هذه؟؟" قلت محدثا نفسي حتى بادرني أبو العبد بسؤاله " متزوج أنت ؟؟ لك أولاد؟؟" وقبل أن أجيب تابع " كان لي ثلاث زوجات ،أنجبن أكثر من عشرين ولدا وبنتا ،أم العبد ماتت وهي تلد فاطمة ، فاطمة تزوجت في الشمال ، وابنتها فريال تزوجت حفيدي ابن صالح وصالح هو بكر أم صالح زوجتي الثانية".

تحسس غلاية القهوة الباردة الموضوعة جانبا على المنضدة " القهوة باردة ، لقد أحضرتها لي حفيدتي حنان ابنة خالد وهي فعلا الحنان كله ، هي الوحيدة التي تزورني وتقوم على خدمتي ، أبوها كان رضيعا حينما حملته بين ذراعي ملفوفا بالكوفية (سنة الهجه) ، أطلقت النار حتى نفذ (الفشك) مني ، كان معي ( بارودة انجليزية ملعونة والدين) وعشرون طلقة بالعدد ، وصوت اطلاق النار ثقب طبلة اذنه وهو منذ ذلك الحين لا يسمع جيدا".

ــ:" لا يهم أشربها باردة "قلت . تناولت فنجان القهوة ، سادت فترة صمت ،صمت أبو العبد حتى ظننت ان شيئا حدث له.

ـ:" رحمة الله عليك يا أحمد الذيب !! "قال أبو العبد فجأة " كان يركب حصانه الأشهب ،يعتمر كوفية سوداء ويعلق على كتفه بندقية ويمتشق سيفا طويلا ، كان رجلا ضخما بشاربين مفتولين يحيط به عدد من الفرسان ، كان يسير بحصانه بين الجموع التي احتشدت لرؤيته والسلام عليه ، كنت شابا حينها وكان معي بندقية".

وضع أبو العبد يده على صدره " أشعر بوخز هنا أحيانا " قال أبو العبد متألما .

" ربما من الدخان فأنت تدخن كثيرا" قلت.

ـ:" لا فلقد بدأت أدخن قبل سبعين سنة عندما كنت أرعى البقر مع عمي مصطفى، كان (العجال) يضم كل بقر القرية ، كان الخير موجودا حينها وليس كالآن يشرب الناس الحليب الجاهز ولبن المصانع، هذا مرض بحد ذاته،أنتم شباب اليوم لستم أقوياء مثلما كنا " سعل أبو العبد بشدة حتى ظننت أن عينيه ستقعان من حجريهما ، تلفت حولي عساني أجد ماء أسقيه ولكنه أشار الي أن لا حاجة للماء ، ثانية وضع يديه على صدره،" تعبت قبل شهر وأخذوني الى المستشفى بعد أن اختلفوا في ذلك كثيرا ، الكل مشغول ولا وقت لديهم ، تعبت كثيرا حتى ربيتهم وزوجتهم وكل هذه الأراضي التي يبنون عليها بيوتهم اشتريتها أنا من مالي الذي كسبته من تعبي وعملي وعرقي وهم يختلفون على أخذي الى المستشفى !! ايه يا ليتني مت يوم ( طوشة البيادر)!!"

أشعلت سيجارة وتذكرت فنجان القهوة الباردة ، ارتشفت منه رشفة صغيرة،وتذكرت أنه علي الذهاب كي أكمل عملي ببيع ما تبقى معي من ملابس ، وقفت مستأذنا ، لم يقل كلمة أبو العبد، عيناه جاحظتان يداه فوق ركبتيه وهو يجلس متربعا على سريره ، وسيجارة بين شفتيه تطلق دخانها في فضاء الغرفة على شكل حلقات صغيرة ثم تتسع متلاشية.

انتزع سيجارته من بين شفتيه ونظر اليها " أحدهم أخبر الانجليز عن مكان أحمد الذيب ، طوقوا القرية ، قاومهم وساعدناه في ذلك ، سقطت من جيبه علبة التبغ هذه فالتقطتها عن الأرض وما زالت معي  ،ها هي ".

تأملها الشيخ فعرفت أنه الآن يرى أحمد الذيب داخل اطارها القديم ،وضعها على المنضدة الصغيرة بجانب السرير ، أطفأ سيجارته في المنفضة الممتلئة " يجب أن أذهب يا عم أبو العبد " لم يجب ، تمدد على فراشه متوسدا كفيه ناظرا الى سقف الغرفة ، ثم أسبل جفنيه ، نظرت الى علبة التبغ وكان وضعها على حافة المنضدة ، وحينما اختلج ذلك الجسد المسجى ، وقعت تلك العلبة على الأرض ، تبعثر ما فيها ، لكنها اختفت رائحة التبغ.