هي أسمال ذاكرة
نسب أديب حسين ـ فلسطين
تقترب بتوجس من الموظفة في المدخل لتسأل عن مكان وجوده.. بعد أن ابتعدت عن الموظفة وتقدمت في الرواق لتتخذ المصعد وراحت تنتظر، شعرت باضطراب شديد كأنما في صدرها مدفع يقصف قنابلا.
دخلت المصعد وراحت تتفقد محتوى الكيس الذي تحمل، ثم أخرجت مرآة صغيرة لتلقي نظرة سريعة على وجهها، سرعان ما ألقت بها في الحقيبة مع وصول المصعد للطابق المقصود. وجدت أمامها رواقًا طويلا، راحت تتقدم بخطى قصيرة متباطئة، تنظر الى أرقام الغرف أكثر من مرة لتتأكد أنها لم تعبر الغرفة المطلوبة. كلما اقتربت أكثر ازداد ترددها وتفكر بالعودة.
تجد نفسها وجهًا لوجه امام الغرفة المطلوبة، البابُ ليس مغلقًا كما أنه ليس مفتوحًا على الملأ، تمكنت من تمييز بعض الوجوه في الداخل، ازداد ارتباكها فابتعدت قليلا وهي تحاول أن تجد مكانًا تغيب فيه عن أنظار الخارجين.
بعد أن عثرت على مطلبها نظرت الى الساعة، فتنفست الصعداء، إذ لا يزال أمامها ثلاث ساعات من الوقت.
طيلة عشرين دقيقة راحت تنهض كل خمس دقائق لتراقب إن كانت الغرفة قد فرغت، ثم تعود الى مقعدها الخفي، تمضي بعض الوقت بالنظر الى صور محفوظة في هاتفها النقال، او بمحو رسائل نصية قديمة، تفكر في المغادرة ثم تقول كلا ما دمت قد أتيت سأبقى، تمر نصف ساعة، تتجه نحو الغرفة ليس ثمة صوت ينبعث منها، تلقي نظرة سريعة من الباب المشقوق فتتأكد من خلوها من الزوار. تتراجع قليلا نحو سلة مهملات قريبة لتخرج باقة زهور من الكيس الذي تحمل ، تلقي به في القمامة، وتسير الى باب الغرفة مرة أخرى.
تنظر الى باقة الزهور في يدها وتسخر من نفسها " كم انتظرت أن تصلني باقة كهذه منه ، وها أنا بعد كل شيء آتيه بواحدة..".
يعود قلبها ليتسارع في نبضه، تهتز أطراف أصابعها وهي تدفع الباب، دخلت ببطئ محاذرة ألا يصدر حذاؤها صوتًا، تنظر الى سريرين في الغرفة، وجدته ممدًا على أحدهما، وعلى الآخر عجوز تجهله. رأسه معصوب، عيناه مغمضتان ، رجله اليسرى يلفها جبس... معلقه برباط الى واق حديدي.
تستجمع قواها وهي تقترب لتجلس على مقعد قريب، واضح أنه يغط في النوم فلا ترى تراقص عينيه العسليتين. تتمعن في قسمات وجهه وشعره الأسود تتذكر وتتعجب كيف تنقلب الاحداث والأقدار، قبل عامين فقط كادت أن تكون هي في مثل هذا الموضع بعد لقائهما الأخير. ذاك اللقاء الذي تلقت فيه كلماته كطعنات خنجرٍ في صدرها، وذهب بسنين ٍ خمس رصدتها من عمرها لحبه بصمت، وهي ترى كل ذاك الود والحب الذي يموج في عينيه كلما التقاها.. فجأة نضب ذاك النبع وشبَ حريق أتى على كل ما كان. علمت أنها لم تُجِد يومًا اصطناع ابتسامة كما أجادت في ذاك اليوم، وحاولت جاهدة أن تبقى بكامل رزانتها وهو يشجعها على لقاء صديقٍ له يود التعرف عليها، ويدعي أنه يقدم نصيحته كأخ. لا تدري كيف مرت تلك اللحظات التي تبقت من لقائهما، وجدت نفسها على الرصيف تبحث عن محطة للحافلة، مثقلة بصدمتها، تنظر الى الشارع ولا تراه، وعندما وقفت لتعبره مرّت سيارة مسرعة ونجت من حادث مؤكد بأعجوبة. في مساء ذاك اليوم قررت أنها ستبذل جهدها لنفيه عن قلبها.
عامان عمر الحب المقتول، عامان وهي تحاول أن تبرّ بعهدها لذاتها ولا تعلم ان نجحت في أن تشفى منه، فلم تجرأ أن تلقاه مرّة أخرى. أتته اليوم ولم تستطع أن تبقى في بعدها عنه بعد أن علمت بوضعه الصحي الحرج.
تتيقظ من وجومها عند انتباهها الى باقة الزهور التي في حِجرها، تنهض لتضعها على طاولةٍ قريبة، وتعود الى المقعد وهي تتحسس تسارع نبضها، قلبها يعمل بهدوء، فشعرت بشيء من الطمأنينة.
فتح عينيه ببطئ وعندما رآى وجهها ظنّ نفسه يحلم. نطق بعد لحظة : " أهذه أنتِ؟" ابتسمت وقالت: " أجل هذه أنا". عاد ذاك البريق القديم الى عينيه وسمعته يقول " يا الهي كم انتِ طيبة" حين شعرت بقشعريرة تسري في جسدها إذ وضع كف يده اليسرى على كفها الأيمن الذي نسيته ملقى على السرير، باعدت بكفها لتربت مرتين على كفه وتقول:" وهل يُعقل أن أعلم أن أخي مريض ولا آتي لعيادته".
باعد عندها بنظره عنها، وإذ به تداهمه سعلة حادة فنهضت بسرعة لتأتيه بكأس ماء واقتربت تسند رأسه بذراعها وترفعه ليشرب من الكأس. هدأ قليلا، أنفاسه قريبة من عنقها، نظر اليها بوَلهٍ، أما هي فوجدت نفسها تعيده بسرعة الى وضعية استلقائه السابقة وتبتعد، تعجبت من نفسها، شعرت بقوة كبيرة تداخلها، سألها عن أحوالها والى ما آلت اليه أمورها، أخبرته أنها على خير ما يرام، وأنها ستسافر بعد أن حصلت على عمل في شركة أجنبية ، سأل بتعجب:ـ الى أين ؟
ـ الى فرنسا
سأل: ـ فرنسا.. لماذا؟
ـ لقد سنحت لي فرصة جيدة للعمل
ـ حسنًا لكن لماذا تغادرين البلاد؟
هنا رأت أنها يجب أن تكون حازمة فلم يعد من حقه أن يتدخل في شؤونها، فقالت: ـ لدي أسبابي الخاصة.
صمت... حاولت أن تغير الموضوع، راحت تسأله عن الحادث وعما حصل، وما هو وضعه الصحي؟ نظرت الى الساعة بقي أمامها ساعتين فقررت انه حان الوقت للمغادرة، نهضت وتمنت له الشفاء العاجل، سألها: ـ الى أين؟ ابقي.. لم يمض ِ على حضورك سوى القليل، انني مشتاقٌ اليكِ..
ابتسمت كم كانت تحلم ذات يوم أن يعترف ولو لمرة أنه اشتاق اليها، قالت:ـ يجب أن أكون خلال ساعتين في المطار.. آسفة يجب أن أذهب.. حمدًا لله على سلامتك.
صافحت كف يده الذي حاول أن يضغط على كفها، كان ذاك الحب الذي أنكره ذات يوم يفيض في عينيه، يدعوها لأن تقترب، ولم تحاول أن تفعل.
بهدوء سحبت كفها من كفه، واستدارت وهي تقول:ـ وداعًا
فصرخ:ـ بل الى اللقاء
ابتسمت:ـ حسنًا الى اللقاء.
خرجت من باب الغرفة وأغلقته دون أن تنظر في عينيه. تنهدت وبدأت تسير بخطى وئيدة، تحسست نبضها، إنه على وتيرته، شعرت بسكينة تداخلها واستمرت تجاه المصعد.
فجأة رأت ممرضتين تركضان في الرواق وتعبرانها، استدارت لتتابعهما بنظرها، لقد دخلتا غرفته، شعرت بالخوف تساءلت هل ألم به مكروه؟ هل ازداد حاله سوءًا؟ ثم تعود لتقول:" كلا كان باديًا في حالة جيدة، لا بدّ أنه المريض الذي يشاطره الغرفة، لن أعود.." تنظر الى الساعة في يدها لتؤكد لنفسها " لم يبق لدي متسعٌ من الوقت" تسير بخطى بطيئة مترددة..
سمعت صوتًا نسائيًا ينادي " يا آنسه.. هلا توقفتِ"، ترددت... وبعد أن سمعت الطلب مرّة أخرى توقفت واستدارت، كانت احدى الممرضتين بادرتها:" المريض في غرفة 152"
ـ ما به؟ هل حصل له شيء؟
ـ لا..لا تقلقي ، لكنه استدعاني وتوسل الي أن أعدو خلفك كي أقول لك أنه.. يحبكِ
حملقت بها مشدوهة، راحت أفكارٌ كثيرة تتنازع في داخلها، ترى ماذا ألم به ؟ لماذا غير رأيه فجأة؟ . تفقدت حال قلبها وجدته ما يزال في سكينته، فابتسمت وقالت لها:" أخبريه أن أختك تحبك أيضًا"
وسط دهشة الممرضة استدارات وتابعت سيرها مسرعة، لم يتبق متسعٌ من الوقت يجب أن تسرع، حياة جديدة بانتظارها.. قبل أن تغادر المشفى نظرت الى الخلف وابتسمت، اليوم فقط تأكدت أن كل تلك المشاعر كانت أسمال ذاكرة.. وخرجت.