المشعوذ والمرضى
د. هوار بلّو /العراق
وقف المرضى على اختلاف آفاتهم و عللهم العضوية و النفسية في طابور طويل يتلقّون العلاج على يد مشعوذ اشتهرًتْ به المملكة مِن أقصاها إلى أقصاها .. و كان هو بدوره لا يردّ أحداً من مرضاه خائباً مهما كان مرضه أو بلغَتْ علته .. كان يجلس المريض أمامه ويصدر حركات غريبة و يطلق ترانيم و تعاويذ غير مفهومة للحضور ، كان تارة يصبّ الماء على رؤوس المرضى و تارة يضع يده على أعضائهم العليلة و تارات أخرى ينفث في وجوههم و أجسادهم .. كان يتعامل مع المرضى بنفسية تملؤها الثقة و كأنه المسيح عيسى بن مريم عاد من جديد يتصدى للأمراض بأنواعها و يشفي الأبرص و الأبكم بإذن ربه .. و عندما جاء الدور على رجل ثيّب كان يقف في الطابور طلب منه المشعوذ كسابقيه الجلوس أمامه ، فقال له الرجل :
- قبل أنْ تبدأ بإطلاق تعويذاتك أو تصدر حركاتك الغريبة ، وددْتُ أنْ أخبرك بأنني لا أؤمن بك و لا بخزعبلاتك هذه ، فأنا لا أراك سوى مشعوذاً و مرتزقاً ؟
فامتعض المشعوذ امتعاضاً شديداً و قال :
- كيف تنعتني بالشعوذة أيها الأحمق الخرف ؟ و لماذا تقف إذن في الطابور إنْ كنت تراني مشعوذاً ؟
أجاب الرجل العجوز في هدوء :
- لقد أرغمني أولادي على المجيء بعد أنْ طافوا بي على كل حكماء المملكة دون جدوى !!
ازداد المشعوذ في امتعاضه حتى بدت تجاعيد وجهه ، ثم رمى ببصره صوب الحاضرين و قال :
- ألا ترون ؟ لقد اعترف بنفسه أنّه لم يجد العلاج عند أي حكيم في المملكة ، فأنا محط أنظار المرضى اليائسين كما ترون !!
ثم استدار نحو سجل ضخم كان قد وضعه على مقربة منه ، و أردف قائلاً :
- أ تروْنَ هذا السجل ؟ إنّ هذا السجل الضخم يحكي قصة حكمتي و بركتي التي تحل على المرضى منذ ما يناهز الثلاثين عاماً ، إنه يضم في بطنه أسماء الآلاف من المرضى الذين تلقوا العلاج على يدي ثم تماثلوا للشفاء ، و قد كتبتُ إزاء اسم كل مريض نوع مرضه و تاريخ تلقيه للعلاج على يدي ، و بإمكانكم أن تطلعوا عليه بأنفسكم لتصدقوني .. و بعد كل هذا يأتيني عجوز خرف لينعتني بالشعوذة و الارتزاق و يقلل من هيبتي و اسمي ؟!
ابتسم الرجل و قال :
- و يا ترى هل فكرت يوماً أنْ تفتح سجلاً آخر لأولئك المرضى الذين تلقوا العلاج على يدك و لم يحصل لهم نصيب في الشفاء ؟ هل فكرت أن تدون أسمائهم أيضاً في سجل آخر و تضعه بجانب هذا السجل ليراه الناس ؟
و استدار الرجل صوب الحضور و قال بأعلى صوته :
- لن يفعلها بكل تأكيد يا سادة الحضور .. هل تعرفون لماذا ؟ لأن السجل الذي سيتمخض عن هذه العملية سيكون ضعف هذا السجل الذي عنده ، و وقتها سوف لن يجد في هذا الطابور سوى سفهاء المملكة الذين سلب الله منهم نعمة العقل و التمييز بين الحق و الباطل .
قالها ، ثم استدار صوب المشعوذ مرة أخرى و قال :
- إنك لا تظهر وَجْهَيّ العملة للناس . بل تظهر لهم فقط الوجه الذي يروق لك و تخفي الوجه الآخر .. إنك تمسخ الحقيقة لتضلل الناس من حولك . و لتعرف جيداً أنّ جولة الباطل قد تكون ساعة و لكن جولة الحق إلى قيام الساعة !!
امتعض المشعوذ من كلام الرجل و أدار له ظهره و قال لخادمه الذي كان يقف قريباً منه :
- أطرد هذا العجوز الخرف فلا يجوز لبركتي أنْ تحلّ على إنسان يشك بطهارتي أو يقلل مِن هيبتي أمام مرضاي .