الهبية في البادية
عبد الواحد الزفري*
نشاز وجودك ينبغي استئصاله إن كنت هبي المذهب، فما معنى أن تغرد لوحدك خارج السرب؟! تقول ما لا يفهم ولا تفهم ما يقال، تتصرف بغرابة تجعل الآخرين ينظرون إليك بسخرية.
من هذا الصنف كان "حميدو" الذي رفض السير وسط القطيع إلى مثواه الأخير كما رفض أن تحوله الحضارة إلى غبار ينفث في وجه الريح، كان "احميدو الهيبي" يقتسم معنا كل شيء، أكله ملبسه ومرقده، غضبه وفرحه، بل حتى رقصه الرائع الذي يقربك ( وأنت تقلده) إلى عالمك البدائي، فتحس بتلك القشعريرة الغريبة تهدهدك، تنومك، تفزعك من محتواك المادي، وتطير بك عاليا لتلحق مع روحك في فردوسها الخالد، أحيانا زاهيا كان يبدو كفصل الربيع _يلبسه التفاؤل_، فيغرد ويرقص لغد بلون الأحلام الوردية، وأحيانا كثيرة كانت تلبسه سحابة داكنة تحجب عنه النجوم والقمر، فيبدو و كأنه في صحراء قاحلة، لا حياة فيها سوى لسراب يقتفي أثار سراب، في موكب جنائزي نحو العدم. كانت حياته مدا وجزرا (كما كان يقول دائما) وإن سألته عن سر تقلباته أجابك مشيرا إلى رأسه:
- إنها هنا فكيف ستراها !
ويرفع رأسه إلى السماء ضاحكا لكونها وحدها من تعرف معنى لازمته، ذات مرة حدثنا عن شهر عسله الذي قضاه رفقة "جوليان" (الحسناء) في القرية المتاخمة لمدينة القصر الكبير التي تحولت في ما بعد إلى محج للأدباء والشعراء حتى أن فرقة "رولينك سطون" نزلت بطيارتها لتسجل إحدى ألبوماتها على إيقاع الطبل، والغيطة (مزمار شعبي) التي كان له القدرة على معالجة بعض الأمراض النفسية. قال الهيبي أنه لزم فقيه الدوار الذي كان يشعر بالزهو والافتخار، وهو يحدثه في شأن الدين أمام تلك العجمية الشقراء، يعدد له أفضال الحشمة والحياء، وينظر بين الفينة والأخرى إلى ما تحت ظهر "جوليان" يغذي روح "الهيبي" بالمواعيظ والإرشادات، ويشحن ذاكرته الشبقية لمساء في الظلمات، أما جوليان فكانت حريصة على معانقة الفلاحات وتقبيلهن وهن يحملن أكواما من الحطب على رؤوسهن حبل من قنب. مع شروق الشمس، تفتح ذراعيها للنسيم المحمل برائحة (شقائق) النعناع تجري وسط الحقول الخضراء تراقبها باستغراب رؤوس عباد الشمس وقد انتصبت أوراقها منادية "لجوليان" أن تعالي.
في المساء على تلك الصخرة الكبيرة وسط المدشر كانت "جوليان" تجالس نسوة جئن باحثات عن سمر لدفن مواجع وأعباء الصباح، وفي تلابيب بعضهن حمص مقلي وبعض المستملحات يحكينه بسلاقة البدو حتى نقيع البوم، لم تكن جوليا تطلب شرحا لما يقال، تكتفي بسماعهن والتلذذ بإيقاع صوت "الجبليات"، حتى أنها كانت تشير بيدها إلى إحدى الراويات طلبا في إعادة ما قالته على مسامعها، لينطلقن جميعا مقهقهات منقلبات على قفاهن، كانت الفرنسية المحبوبة تشاركهن ضحكاتهن حتى الاختناق، تضع يدها على بطنها الموجع بالضحك، وتعود إلى كوخ حبيبها "الهيبي" وعلى شفتيها آخر الضحكات:
- ما أفيد أن يضحك الإنسان على لا شيء، إنه لحقا ضحك وجداني يتمرد على المنطق واللغة على السواء.
فيجيبها الهيبي وهو يشعل سجارته المحشوة حشيشا:
- إنها هنا فيكف ستريها؟!.
تذكر الهيبي شيئا فتعالت ضحكاته في أرجاء المقهى فقاطع ضحكه قائلا:
- كل جمعة كان شبان المدشر يتجمعون مثنى ورباعا يتابعون بأعين غادرت لوحظها مشاهد من "ستريبتيز." التي تؤديها جوليان عندما ترفع قفطانها وتدخله في الحزام، وتشمر على ساعديها الذين لا نبش أو خدش عليهما، لتعرك بقطعة الصابون ملابس زوجها على خشبة متعرجة (الفراكة) بعد غطس الملابس في ماء النهر، وحين تعصرها، يعصر الشباب المحروم أشياءهم هناك خلف التلال لتتردد أصوات لواعجهم بين الفجاج و الوعار....، وإذا ما نودي للصلاة هرعوا جميعا لتجديد الوضوء.
كانت جوليان بمثابة طبيبة نفسانية في ذاك المدشر المعزول عن الركب الحضاري، فجمالها النادر وشعبيتها وحبها الذي غمر الكبار قبل الصغار جعلها "ستار" في ذاك "الدوار": تلاعب الأطفال غميض البيض": تضع منديلا على عينها وتفتح ذراعيها وتطير كالفراشة للإمساك بأحدهم، لكنهم يستغلون الفرصة ليلمسوا ويجذبوا مناطق حساسة من جسدها و يتصايحون:
- أنا هنا... أنا هنا... فكيف ستراني؟
تتركهم يمارسون حماقاتهم ومكرهم البريء، على مرأى من شيوخ القبيلة الذين يتابعون المشهد، يتماهون مع الأطفال ويتعاطفون مع جوليان وقد يصيح أحدهم:
- جوليان إنه وراءك، أمسكي باللعين.
كانت جوليان لا تتأخر عن عيادة المرضى، فلا تغادرهم حتى يحس الفرد منهم وقد عادت إليه الروح، فيصحبها إلى باب الكوخ مودعا، كل واحد من سكان "القرية" أحب فيها شيئا يدخل ظمن اهتمامه، إما لجمالها الخارق أو لأخلاقها الطيبة أو لهما معا.
ذاك المساء قال لها "الهيبي" وهما متعانقين على ضفة النهر الذي يضمن الحياة للقروين بعد أن دخ شايا من فمه بسبب قهقهة مشاكسة لم تطلب إذنا:
- لقد أسر لي الفقيه بكل غرامياته مع نساء المدشر، فقد كان يتظاهر بقراءة طلاسيمه على العوانس، اللائي لم يتوقف قطار الزواج بمحطتهن، يمرر كفيه على تلك المناطق الحساسة من أجسادهن ليزيل عنها عناكب الهجران وحتى تشحد بذلك شهوتهن الصدئة، فيعرضن خزائنهن المقفلة، ليدخل فيها مفتاح ديره الكبير.
قاطعته جوليان وهي تربت على صدره العاري بكفيها:
- أيها الماكر! كيف جعلته يجرؤ على البوح بهذا؟!
أجابها "الهيبي" وقد عاد لاستئناف قهقهته:
- إنها هنا ! فكيف سترينها ؟
لكن جوليان هذه المرة أصرت على معرفة سر هذا الاعتراف دون اكتراث للازمته، مما جعل "الهيبي" يخر معترفا بالسر بعد أن نومته عيونها الساحرة فاسترسل:
- لم أبدل أي مجهود لإقناعه بالبوح، استفززت مشاعره، لما سألته كيف يصرف مخزون مشاعره الجنسية بعد موت زوجته، وعن سبب عزوفه عن الزواج وجسمه العملاق يوحي بفحولة الثيران، فأجابني بعد أن حثني على الكتمان:
- مرد عزوفي عن الزواج لتلك الوعود التي وزعتها على اللائي تعبدت في محرابهن، لو تزوجت إحداهن، لرجمت من طرف الباقيات، أو لربما صلبت على مدخل المدشر.
فتحت جوليان ذراعيها للريح، استنشقت من الشمس الآيلة للغروب، جرعة هواء وانطلقت تسابق الهيبي وسط الحقول وهي تردد:
الإنسان كل لا يقبل التجزيء.
* قاص من مدينة القصر الكبير المغربية.