الخطيئة
الخطيئة
ياسين سليماني
بعد عرسها أحسّت نورة أنّها اجتازت صحراء الفقر إلى واحة الراحة المالية والنفسية، فعائلتها تعيش في وحل الإملاق الذي لم تستطع الخروج منه منذ سنوات، حتى أنّها لضيق المنزل كانت تبيت مع أختها في المطبخ، أما زوجها فكان عاملا في شركة في الجنوب حيث يأخذ مرتّبا يبلغ أضعاف ما يأخذه أغلب العمال في الشمال. ويملك منزلا خاصا وسيارة وقد سعى منذ تزوّجها لأن يسعدها ويعوضها على سنين الحاجة ويدفئها بحبّه دائما و بوجوده الشخصي أسبوعا واحدا في الشهر لبعد مكان عمله عن المنزل دون أن تحسّ بالملل طوال مدّة غيابه لزيارة أمّها وأختها لها كثيرا.
صباح ذلك اليوم، نوت الذهاب إلى منزل عائلتها فأوقفت كعادتها سيّارة أجرة، كانت مصادفة أن تركب في تلك السيّارة الرمادية ، كان سائقها حلو الحديث صاحب نكتة، لا يتمالك الجالس معه أن يبقى ساكتا فهو يجذب الكلام من اللسان جذبا، حتى أنّه أظهر لها إعجابه بالعطر الذي وضعته، وحين أوصلها أعطاها بطاقة تحمل اسمه ورقم هاتفه قائلا أنّ ذلك الرقم يعطيه لكلّ من يركب معه فهو يعمل في كلّ وقت.
أمسكت بالبطاقة ودسّتها في حقيبتها شاكرة له، دون أن تهتمّ بأنّها يمكن أن تحتاج له في المستقبل، غير أنّ هذا المستقبل سرعان ما جاء، بعد أسبوع من ذلك اليوم، فقد هاتفتها أمّها طالبة منها الذهاب إليها لاصطحابها إلى الطبيب، فاتّصلت بـ "كمال" وطلبت منه الحضور بعد ساعة من ذلك الوقت بينما حاولت الإسراع في إكمال أعمالها المنزلية، فجاء في الموعد وذهبت معه إلى بيت أهلها.
ظلاّ معا قرابة الساعتين منذ ذهابهم إلى العيادة وحتى خروجهم منها، وأصبحت كلّما احتاجت إلى سيّارة لنقلها تطلب الشاب في الهاتف فيلبّي على عجل.
أصبحا يلتقيان كثيرا فيتحدثان في أمور شتّى، وعرفت خلال ذلك الوقت أنّه أعزب في الثامنة والعشرين من العمر، وبمرور الوقت أصبح يعرف عنها الكثير ممّا يخصّها، وكان لمعاملته الرقيقة معها تأثير خاص في وجدانها، بمنتهى البساطة صارا صديقين ممتازين.
في البدء كان اللقاء بينهما ينتهي أمام باب العمارة، كانت علاقتهما قد تطورت من مجرّد صاحب سيّارة أجرة وراكبة إلى لقاءات ومكالمات في أوقات مختلفة، سرعان ما استحال الأمر إلى باب البيت، ثمّ في غرفة الاستقبال، وبعدها صار جزءا لا يتجزأ من حياتها، كان يجعل الدنيا في عينيها حلوة نقيّة لا بدّ من استنشاق ريحها بكلّ ما أوتي المرء من قوّة.
أحبّت نورة كمال لحيائه البادي على محيّاه، لنصائحه لها، لطريقة كلامه التي تنمّ عن تربية اجتماعية جيّدة وكثيرا ما كانت تتساءل: لماذا لم يكن كمال زوجي بدلا عن سامر ؟
أعطته مفاتيح كلّ أسرارها، مواعيد أوبة زوجها إلى المنزل ومواقيت سفره، وإحساسها نحو شريك حياتها، لقد تزوّجت لتتخلّص من الفقر لا لأنّها تحبّه، وحين كانا يفترقان لم يجدا حرجا في أن يلمس يديها وقتا طويلا مع نظرات توحي بشيء ما.
كان يترك في بيتها فراغا رهيبا لا تستطيع ملأه إلاّ بوجوده، أمّا ضميرها الصاحي النائم، فكانت تواجهه بقولها: "وماذا في الأمر، إنّما هو صديق" لكنّ الصديق استطاع مرّة أن يأخذ منها قبلة حارّة من شفتيها تضاعفت مع تعدّد اللقاءات بينهما ووصلت إلى المعاشرة في الفراش.
فقط كان يأتيها شعور بالألم لحالها حين تكون بين ذراعي زوجها، أو حين يقبّل ويضمّ ولدها... أجل ولدها، لأنّها هي نفسها لا تدري إن كان ابنا لسامر أو كمال.
في أوّل ليلة من لقائهما في الفراش ندمت ندما شديدا، كانت تعاهد الله بألاّ تعود إلى خليلها مهما كان، إلاّ أن عهدها ذاك كان هشيما تذروه رياح صوت كمال، فما إن سمعته يتحدّث إليها في الهاتف حتى عاد إليها الحنين إلى أيّامها السابقة، ومن شدة تعلقها به صارت تدعوه ليقضي معها الأسابيع الثلاث التي يغيب فيها سامر، ذلك الزوج المخدوع الذي وضع حياته قربانا لحبّها، يتعب ويرى في تعبه راحة ما دام سيعود في الأخير إلى أحضان زوجته التي كان يظنّها مخلصة له سعيدة بلقائه، وكان حريّ بها أن تقبّل التراب الذي يمشي عليه، أليس هو منتشلها من وحل الفقر ؟ أهكذا يكون جزاء الإحسان ؟ أمّا كمال فإنّه لم يصنع شيئا لأجلها عدا الاستمتاع طوال الوقت بجسدها و مالها.
المثير أنّ في إحدى الليالي كانا في السرير عاريين يتكلّمان لغة الجنس، في قمّة نشوتهما رنّ الهاتف، كان ملتصقين يبعضهما كليّا فصعب عليها في تلك اللحظة أن يفارقا بعضهما ولو من أجل الردّ على المكالمة.
نهضت من عند كمال بصعوبة، لبست ثيابا خفيفة وراحت تردّ على المتصّل الذي كان... زوجها، وحين سألها عن سبب إبطائها ردّت بأنّها كانت منشغلة في المطبخ، وضعت السمّاعة بعد حديث جعلته قصيرا لأنّ كمال نهض عاريا تماما ولحق بها فأخذ يمسّ أجزاء جسمها فتعرّت قبل أن تعود للغرفة، ومارسا المزيد من الجنس بجانب الهاتف وبعسر عادا إلى السرير.
لم ينقطع حبل العلاقة بينهما إلاّ بعد أن كاشفته بخبر حملها الذي جاء بالولد الصغير، وجدته فجأة يقول: انسي ما كان بيننا، اعتبريه حلما وانتهى، وظلّت تحسّ بشيء ما يقول لها بأنّه ابن كمال.
وكان يمكن لهذا السرّ الدفين ألاّ يطفو على سطح الحياة بعد كلّ تلك السنوات لولا أنّ سامر أُعتُلَّ مرّة فاستدعى ذهابه إلى المستشفى ليعرف من الطبيب أنّه عقيم منذ أن وُجد، وكان الطبيب يظنّه عارفا الأمر مدركا له، غير أنّه أنكر عليه ذلك وعهد إليه بإعادة الفحوص مرّة أخرى إلاّ أنّ هذا لم يمنع من السؤال المرّ كالعلقم: من أين لي بذلك الولد البهيّ إن لم يكن هو والده ؟ إلاّ أن تكون المرأة التي أحبّها وضحّى بجهده من أجلها خائنة له... ما أتعسه من رجل.
منذ ذلك الوقت، تغيّر سامر تماما، عاد إلى المنزل... لم يكلّمها ولم يضربها، ولا نظر إلى الطفل... وصار كثير الاختلاف إلى الحانات يسهر فيها إلى أواخر الليل مع مجموعة من الشاربين، غير أنّ ذلك تطوّر فأصبح يدعوهم إلى الحضور إلى منزله.
احتارت نورة واشتدّ عجبها حين جاء مرّة بصديق له فعرض عليها معاشرة الرجل الذي امتلأ رأسه بالمشاكل حتى تخفّف عنه قليلا بجسدها.
اختنقت من البكاء وصاحت: كيف يمكنك فعل هذا بي وأنا زوجتك وأمّ ابنك ؟
ردّ عليها: إن كنت تقولين أنّك زوجتي فهذا ممّا لا أنكره، أمّا أن تقولي أنّك أمّ ابني فإنّ الابن الذي تتحدثين عنه فليس منّي.
هزّتها المفاجأة هزّا، ارتمت على سريرها باكية... فاليوم فقط علمت سرّ تغيّر حالة زوجها، انقطع عن العمل أكثر من شهرين، وأصبح يأتي بزجاجات الخمر فيشربها ويرمي بما بقي منها في المكان الذي وجوده فيه، وكم سكبت دموعها أمامه ليرأف بحالها ويعود إلى ما كان عليه ولكنّها لم تكن تنتظر من سامر إلاّ ما ينتظر قابض الريح من الريح.
وجاء اليوم الذي انهارت فيه تماما، لم يكن ذلك من سامر، ولكنّ ولدها الذي كان يخفّف بعض ما بها، فهو لم يرى الرجل يتلذّذ بخمره مرّة أو مرّتين، وهذا ما جعله يقلّده ويتفنّن في تعلّم أسماء زجاجات الخمر وأنواعها، فتفاجئه مرّة وهو يشرب فتسقط على الأرض متهالكة منكسرة الخاطر لا تقوى إلاّ على التحسّر على ما فات.