للموت مليون طريقة

عبير الطنطاوي

[email protected]

البيت مليء بالصراخ والنحيب .. الكلمات اليائسة هي الحوار الرئيسي المتبادل بين الجارات في الداخل ، ورائحة الموت التي تتنتقل إلينا عن طريق أخبار سوء تتناقلها النسوة عندنا في الحي عن ابن عم أو خال أو صديق أو قريب مات تحت القصف المعادي على العراق الحبيب أو من الخوف .. أو من سوء التغذية .. أو مرض ولم نجد له دواء .. أو .. أو .. وأنا قد مللت هذه الأحاديث إنها تعاد كل ساعة مختلطة بتنهدات حارة منتهية بنحيب مقيت وعبارات مذعورة خائفة من الموت الذي غدا له مليون طريقة في هذا الجو البائس المشحون بالقتل والتدمير ..

العراق .. يا زهرة في القلب عبيرها .. ويا بسمة على الشفاه مرسمهما .. ويا أملاً في الأحلام مرآه .. ويا قبلة على الوجنة نطبعها .. لم أكن أعرف أني أعشقك هكذا .. نعم أحبك .. وفي الأزمات نعرف معنى الحنين إلى الأحباب ونكتشف مدى تعلقنا بهم ..

ـ شجون .. انت هنا ؟

انتبهت على هذا الصوت الملائكي كأنه لحن قديس ينبعث من قيثارة ذهبية ..

التفت خلفي راسمة ابتسامة انتزعتها من بحار الابتسام انتزاعاً .. قلت :

ـ منهى .. اهلاً .. هل تبحثين عني ؟

ـ بالطبع وهل لي صدر حنون كصدرك ؟

ضممتها إلى صدري الحنون كما قالت ضمة أحسست فيها بحرارة الصداقة والمودة القديمة على الرغم من اختلاف جنسياتنا عن بعض واختلاف السن والحالة الاجتماعية .. فلا يجمعنا سوى الدين (الإسلام) .. قالت بعد أن أفلتها من بين ذراعي :

ـ فارس يا شجون فارس ..

ـ فارس يا حبيبي الصغير ماذا به ..؟

ـ الحليب .

ـ الحليب ؟

قلت لها مستغربة وأنا أنظر إلى صدرها الذي يعلو ويهبط .. ثم أردفت :

ـ وحليب الأم أين هو ؟

ـ ذهب منذ خبر استشهاد عمي ..

ـ والأسواق ! ألا يوجد فيها حليب رضع ؟

ـ الأسواق لا يوجد فيها طعام لنا فكيف سيكون فيها طعام لابن عشرين يوماً ؟

ـ والعمل ؟

ـ دبريني يا شجون .. فارس جائع .. سيموت من شدة البكاء ..

وبدأت الدموع تتساقط من مآقيها .. كأن الللآلئ تنحدر من صدفتين سوداوين .. ربتّ على كتفها وقلت :

ـ الله معنا .. اعتمدي عليّ .

قبلتني .. دعت لي .. ثم غادرت المكان إلى بيتها وطفلها .. وجلست أنا أحدث نفسي حائرة .. تعتمد عليّ !! كيف لي أن أحصل على حليب ؟ نظرت إلى معصمي الذي يلفه اسورة من الذهب هي في يدي منذ أن كنت طفلة .. أنا أحب هذه الذكرى من الماضي الحبيب .. لكن منتهى وفلذة كبدها أغلى وأغلى وأغلى ..

دخلت إلى البيت حيث أمي والجارات وبدأت أسأل الموجودات عن حليب للصغير .. لكن الحاضرات جميعاً أشرن متأسفات لعدم وجوده ..

لبست ملابس الخروج الشتوية وقاومت عصف الرياح المختلط بهدير الطائرات وقصفها ، مررت على جارنا البقال سألته عيوني قبل لساني ولكنه أبدى أسفه في حزن ..

خرجت إلى الشوارع تعسة والبرد يلفني كي ألتمس طعاماً لذلك الثغر البسّام الصغير والجميع يبدي أسفه وحزنه ..

عدت إلى البيت أخيراً والتقطيب بادٍ على وجهي .. قابلتني أمي باللوم كيف أخرج في هذا الجو والطائرات تحوم حولنا .. والعواصف .. و.. و.. وما كادت تنهي تأنيبها حتى أسكت صوتها صفارة إنذار لغارة جديدة .. حقاً .. إن تشبثنا بالحياة يولد كلما ولدت غارة جديدة ..

في اليوم التالي خرجت في جولة جديدة أبحث عن حليب لفارس حتى جاء اليوم السابع وقمت من الصباح الباكر بجولتي على البقالات فأخبرني جارنا البقّال أنه يستطيع تأمين بعض الحليب بعد يومين .. أشرق الأمل من جديد بعد أن كادت شمسه تذهب وتغيب وولدت البسمة على شفتي بعد أن قتلها التقطيب .. عدت إلى البيت وسألت عن منتهى وابنها أخبرتني أمي كالعادة بما لايسر .. الطفل جائع والعائلة فقيرة ولا تعرف من أين تؤمن معيشة الصغير .. لآلئ منتهى تتساقط باستمرار .. وزوجها لم يعد بعد من جبهة القتال .. وهي تسأل أمي عني باستمرار .. بأي وجه أقابلها ! وهي التي توكلت على الله ثم عليّ !!

بعد يومين عدت إلى البقّال فوجدت دكانه مقفلاً .. نظرت إلى الساعة في معصمي إنها لا تزال السابعة صباحاً .. وهو بالتأكيد لم يعد بعد من بلدة (الفلوجة) لجلب الحليب .. بقيت قابعة مكاني قرب الحانوت أنتظر والبرد يقرصني قرصاً لكن أحلامي بأن أحصل على حليب للصغير وأرى بسمته وبسمة أمه تبعث حرارة في جسدي لا أعرف مصدرها ..

وأخيراً وفي الساعة العاشرة صباحاً وصل البقّال وعلى وجهه ابتسامة الأمل والفرح .. قدم لي الحليب وطلب ثمناً لم أكن أتوقعه وحين استفسرت عن السبب أخذ يشرح ويعيد ويزيد فلم أجد بداً من أن أسكته لألحق لآلئ منتهى فلا أتركها تسقط بعد اليوم .. ووجدت أن الدنانير التي طلبها أرخص بكثير أمام لآلئ منتهى وصحة فارس .. ولم يكن المبلغ معي فاضطررت إلى نزع إسورتي التي كانت تكبر معي وكأنها دفتر ذكرياتي ودمعة حرّى تلمع في عيني .. دسستها بيده وأنا أقول :

ـ هذه تنفع ؟

ضحك قليلاً ضحكة هزت شاربه الثخين ثم قال :

ـ تنفع يا بنتي .. زين .. لكن يبقى لك عليّ من ثمنها مبلغ ....

قلت له بلهفة :

ـ هات الباقي يا عم وبسرعة ..

وما لبث أن أخرج حفنة من الدنانير وسلمني إياها وانا متأكدة أنه قد أخذ أضعاف حقه مني ..

مررت على بيت منتهى فلم أعثر عليها فيه .. عدت إلى بيتي والفرح يصنع لي أجنحة أطير فيها إلى صديقة دربي وابنها الجائع .. دخلت إلى حديقة منزلي فوجدت تلك العيون الصدفتين واللآلئ المنحدرة التي خطت خطوطاً من الحزن على الخديني الأسيلين .. صرخت بفرح :

ـ منتهى .. هذا الحليب لفارس ..

لا جواب سوى الدموع ..

ـ منهى هيا خذي واقرئي التعليمات واصنعي الحليب لفارس ..

قالت بحزن وكبرياء :

ـ لمن الحليب ؟

قلت منزعجة وقلبي بدأ يفهم معنى كلامها :

ـ لمن ؟ ما بك ؟ له طبعا لـ ...

صرخت بصوت مكسور ودموع الثكل تتساقط وتتساقط أغرقتني معها بالهموم :

ـ أسكتي يا شجون .. أسكتي أرجوك ..

صحت فيها :

ـ ويحك أين فارس ؟

وكان الجواب بكاء يقطع نياط القلب .. ندت من قلبي صرخة موجعة باكية ..

ـ لا .. الأطفال لا يمكن أن يموتوا هكذا من الجوع .. الجوع .. الجوع .. كم أكرهها هذه الكلمة ..

غرقت لحظة في بحار الحزن والألم .. سادت لحظات من الصمت قطعتها أصوات قنابل وصواريخ وصافرات الإنذار وصراخ وانفجارات ..

نظرت إلى منتهى وجدتها تدخل البيت .. تركتني وحيدة كما تركها فارس وأبوه وحيدة في هذه الدنيا .. بين عشية وضحاها غدت العروس منتهى بلا عريس وبلا طفلها الأول الذي جفت المآقي انتظاراً وشوقاً لقدومه ..

حدقت في وجه الطائرات والنيران المتناثرة في السماء غاضبة .. وصرخت برجاء :

ـ يااااااااااا رب .. يا كريم ....