في ظلّ العتمة

في ظلّ العتمة

نعمان إسماعيل عبد القادر

[email protected]

الكلمات هي أكثر من كلمات.. والتي قيلت قبل لحظاتٍ من موعد خروج المشتغلين من ذلك المجمّع التجاريّ إلى شارع الملك جورج، تركتْ في نفس "سلوى" أثرًا أَهَمَّها وَأَحْزَنَها.. "أنتم العربُ متخلّفون.. مقيّدون.. تحكمكم دوافع وعادات ورثتموها أنتم وآباؤكم عن أجدادكم، وما لكم عليها من سلطان.. وما العيب في ذلك أنا أعيش مع صديقي في بيت واحدٍ منذ أربع سنوات، وما أجمل الحياة مع الرجل..." نظرتْ حولها نظرة تَفَحُّصٍ كمن يبحث عن شيءٍ ضاع منه، ثمَّ سارتْ في طريقها وقد راودتْها أفكار مختلفةٌ وأحاطتها هالةٌ من الضياع.. إذا كانت هذه حالنا، فظالمة هي الدنيا التي سلبتْ لنا الحظ من دون غيرنا.. أبناء عمومتنا ينعمون بكل ما أوتوا من حظوظ.. ملذاتُ الحياة لهم، ولا شيء لنا سوى الآخرة!  هنيئًا لهم.. نحن استحوذ الغمُّ والهمُّ والحرمانُ علينا، حتى صرنا أشباحًا وما نحن بأشباحِ النهار بعارفين.. كأننا كالحجارة أو أشدّ قسوة.. لا نحسّ ولا نتألّم.. لا الجوع يغزونا ولا العطش يداهمنا.. لا نفكّر ولا نتخيّل.. لا نحتاج إلا أن نكون كحجارة الشطرنج أو بين حجارة الجدران.. أو شاحناتٍ تتحرك بالديزل..  هكذا كُتب علينا.. وعلينا أن نستسلم.. يا سبحان الله!! حتى تفكيرنا نُحاسَب عليه! مشاعرنا نُلام عليها! المواقف حين تسخن تذوب في قاع القِدْر بسرعة عجيبة. لا بدّ من التحرّك في هذه الحياة قبل أن نموت".

حين تناهى إلى أذنيها صوت زميلتها "يهوديت"، تناديها بصوتها الرّخيم، تحررتْ من أفكارها فانتبهتْ لها انتباهًا فاترًا وهي تقول:

هيّا أسرعي يا "سلوى"، قبل أن يفوتنا موعد قدوم الباص.

استيقظتْ من غفلتها ومضتْ تحثُّ خطاها نحو المحطّة ثم قالت في صراحةٍ تامّةٍ:

أنت محقّة يا "يهوديت" أمتنا العربيّة متخلّفة وظالمة.. لو كان فيها خير لأصبحتْ أمّة منتجة، وما انهزمتْ.

سحاباتُ التردد كادت تغطي المنطقة بأسرها في ذلك المساء.. كيف لا؟ هي الخطوة الأولى صعبة إلى هذا الحدّ؟ لقد أخطأتُ حين شاورتُ "عبير"؟ لماذا تشاورتُ معها رغم أني أعرفها وأعرف مواقفها؟ هي فتاة معقّدة حقًّا. ما لي وللحضارة العربية الزائفة. كثيرات هنَّ النساء اللائي يعملن في تنظيف بيوت أغنياء اليهود ثمَّ حدّث ولا حرج.. والرجال تحكمهم دوافع حيوانيّة فيمارسون ما حرّموه هم على غيرهم.. والعالم اليوم كلّه أصبح متحضّرًا إلا شعبنا المريض. ضغطتْ على أزرارِ هاتفها فظهرتْ أرقام هاتفهِ على الشاشة الصغيرة ثم عادت ومسحتها قبل أن تأذنَ لإبهامها بالضغط على زر الإرسال. أضعيفةٌ أنا إلى هذا الحدّ؟ لا بدّ من الارتفاع إلى مستوى الجرأة:

"مرحبا "علاء" هل يمكننا أن نلتقي غدًا بعد خروجنا من العمل في تمام الساعة الرابعة قرب المجمّع الكبير في تل أبيب؟".

اللقاء الحارّ كان أكثر من ثلاث ساعات.. وسخونته بعثت الدفء في نفسها.. المتعة لا حدود لها.. هي السعادة عينها. راحة للبال وقمّة الطمأنينة. بل وآفاق جديدة. ثم تلاه لقاء ثم لقاء. ما أجمل الحياة مع الرجل! أنت محقّة يا "يهوديت".

وثمّة مساءٍ أخذت تشكو همّها إلى زميلتها:

-"تُرى لماذا لا يردّ على الهاتف يا "عبير"؟ حاولتُ الاتصال به مرارًا وتكرارًا لكنه لم يرسل لي أية إشارة. أشعر أنه يتهرّب منّي".

وفيما هي غارقةٌ في بحر أفكارها بين البضاعة المكدّسة  على أرض المجمّعِ، وكانت قد أُلقيتْ عليها مهمّة ترتيبها على الرفوف بعد أن تضع عليها تسعيرة المجمّع، إذ سمعتْ صوتها ينبعث من خلف الرفوف وهي  تتحدّث بصوت شديد الانخفاض يكاد لا يُسمعُ إلا بشق النفس. استرقّتِ السمع وأدركتْ أنه قد وقع في غرامها. يا ويل هذا المجرم! ويا ويح هذه الخائنة! أهذه "عبير" التي نصحتني بالعدول عن هذا! تقول لي:"حضارتنا العربيّة لا تسمح لنا بهذا، ولا نستغني عنها أبدًا! "، ثم تطعنني في ظهري فتسرقه منّي؟ ويريد هو أن يهدم مستقبلي الآن؟ أهذا هو الرجل الذي وثقتُ به وسلّمته نفسي؟ كم هذا يعذّبني والله لأهدمَنَّ  عليه مستقبله!!

كان مساء الخميس قد حان بعد انتظارها الطويل.. دقيقةً بدقيقة كانت تعدّ الوقت.. من الحافلة التي تحمل رقم 15 نزلتْ في المحطّة القريبة من الحديقة العامة.. أحسّت أن الدنيا قد أصبحت على كفِّ عفريتٍ أحول العينين. تسللتْ بين الأشجار بخفّة اللصوص. وأخذت تدوس عشب المتنزه بحذاء رياضيٍّ  وهي تخفي في جيبها سكينًا حادًّا.. وتضمر في قلبها خناجر الانتقام.. حين اقتربت من الجدار الجنوبي الذي اعتاد أن يلتقي بها تحت ظلِّ العتمة، قبل أن يلقي بها جانبًا، نظرت بعينين حتميتين مملوءتين نيرانًا من الغضب، فوجدتْ جسدين ملتصقين لزما جذع شجرة خروبٍ كبيرةٍ يبدو أنها زُرعتْ قبل أيام الانتداب أو من أيام العثمانيين.. وما هي إلا دقائق حتّى انهالتْ عليهما فمزّقتهما تمزيق كمن يقطّع اللحم المشويّ بأسنانه الحادّة.. ثم تفرّست في وجهيهما.. نعم إنهما هما...