نوبة سكري
عبير الطنطاوي
منهمك في تنظيف سيارته من آثار السكر المتناثر هنا وهناك في كل أرجاء السيارة ، تارة يتأفف من ذرات السكر العالقة في كل مكان ، وتارة يدعو ربه بالستر في الدنيا والآخرة.
أما جاره في المحل المجاور له ابن الأربعين عاماً الذي عاش عشر سنين منذ زواجه وهو يحلم بولد يملأ عليه حياته الفارغة ويوسخ له سيارته ويترك آثار لعبه وشقاوته في بيته وحياته كلها ، فكان ينظر إلى (مروان) نظرة كلها حقد وحسد ويقول متحسراً في نفسه :
ـ يتأفف من النعمة ، فليحمد الله أن له أولاداً بنين وبنات ينثرون السكر والحلويات في أرجاء سيارته ..
ثم يمشي متبختراً أمام (مروان) ويقول له بلهجة الحاسد :
ـ شو ؟! يظهر أن الرحلة بالأمس كانت مليئة بالحلويات والسكريات !!
أما (مروان) فكان يكتفي برفع ناظريه إلى أعلى مع ابتسامة ممتعضة ويهز رأسه مكملاً عمله دون أن ينطق ببنت شفة .
أما جاره (سعيد) فكان هذا التصرف لا يزيده إلا حقداً وحسداً فيردف :
ـ هل كلامي يؤذيك يا رجل ؟ حدثني كما أحدثك .
فيقول (مروان) مبتسماً بحزن :
ـ الذي يدري يدري والذي لا يدري يقول كف عدس .
ويعود إلى عمله ، أما (سعيد) فكان يغادر وفي قلبه نيران مشتعلة .
وتمر بضعة أسابيع ... ويتكرر المشهد ذاته .
(مروان) منهمك في تنظيف سيارته من آثار السكر المنثور في كل مكان ، و(سعيد) واقف كعادته يتحسر ويحقد ويحسد كذلك ، ثم مرّ بالقرب من (مروان) وقال :
ـ يا سيدي الله يطعمنا من السكر الذي طعمك .
أما (مروان) فلم يزد على أن يقول مقولته المعتادة :
ـ الذي يدري يدري والذي لا يدري يقول كف عدس .
وغادر ليترك (سعيد) يشوى في غيظه وحقده ، وهو لا يدري ما الذي يقصده (مروان) بهذه العبارة الغامضة ، ولا يمسك نفسه فيتمتم :
ـ عيب عليك يا رجل احمد الله على الصغار وعلى وسخهم اللذيذ .
ولما لم يجد جواباً عاد إلى متجره وكله غيظ وحقد وحسد ...
ولم تمض أيام إلا ويتكرر المشهد نفسه ، وكذلك (سعيد) لم يمل من مراقبة (مروان) والتحسر :
ـ ناس محتارة بالأولاد يرفسون النعمة بأرجلهم وناس بحسرة ولد واحد يملأ عليهم دنياهم .
وبينما هو في تفكيره وتأمله ، إذا بصديق (مروان) يقف إلى جانب (مروان) الذي ما فتئ ينظف السيارة من السكر ويسأله بلهفة وأسى :
ـ ماذا يا رجل ؟ نوبة سكري أخرى لضياء الصغيرة ؟
فيجيب (مروان) وقد جمدت دموع حرى في مقلتيه العسليتين :
ـ لا يا أخي . هذه المرة أختها الصغيرة (ربى) التي لولا لطف الله بنا لضاعت من أيدينا أمس .
سأله صديقه باستغراب :
ـ أنا أعرف أن (ربى) سليمة من هذا الداء الظالم فما الأمر ؟!
قال مروان وكانت دموعه تسبقه :
ـ في منتصف الليل استيقظ ابني الكبير على أنين مخنوق اعتقد في بادئ الأمر أنها أخته (ضياء) ولكنه ما إن دخل غرفة البنات وقد انتابه الهلع والذعر والخوف على أخته حتى رأى (ضياء) المسكينة واقفة عند رأس الصغيرة (ربى) وهي ترتجف خوفاً على أختها وتسألها ما بها ؟ ركض الصبي إلى حجرتي وصراخه الحنون وعويله قد أيقظنا وأمه من قبل أن يصل إلينا ، قفزنا أنا وأمه وباقي أفراد الأسرة وكانت الطامة الكبرى .. فأعراض انخفاض السكري كلها ظاهرة على الصغيرة وانهارت الأم وقد علمت من التجربة أن المرض اللئيم قد طال الغالية الثانية كذلك ، ولكنها كعادتها ، أخت رجال ، تماسكت ولبست حجابها الوقور وحملنا الصغيرة بيد وكيس السكر بيد أخرى وركبنا إلى المستشفى وطول الطريق وتلك الأم الحنون تحاول فكّ التشنج عن غاليتها ودسّ السكر في فيها كمحاولة يائسة لرفع السكر في دم البنت الغارقة في عالم لا يعرفه إلا المولى وها أنت ترى آثار السكر المنثور في كل مكان .
وسكت (مروان) ولم تسكت دموعه ولن ولن ولن تسكت إلا أن يشاء الله ، ولم يتمالك ذلك الصديق أن يغرق هو الآخر في الدموع ، وبعد دقائق فكّ الصديق ذلك الصمت الباكي بقوله :
ـ ونجت برحمة الله .
وهنا شعّ الأمل في وجه الأب الحزين وقال بعيون مرفوعة إلى السماء تشكر المولى :
ـ الله لطيف بعباده فقد ردّها إلينا ولم يحملنا ألم الثكل لا قدر الله ، ولكن آه آه كلتا الزهرتين مصابتان بالسكري .
وما استطاع عند هذه الكلمة إلا أن يدفن وجهه بكلتا يديه وينخرط في بكاء مخنوق مكلوم .
أما (سعيد) الذي سمع كل شيء فقد عقدت الدهشة لسانه وشلت له حركته فقد كانت دموعه تنساب حرى تحرق له قلبه وتؤنب ضميره للحسد الذي كان يحسده لذلك الأب المسكين.
وبعد أسابيع لما رأى (سعيد) جاره (مروان) ينظف سيارته من السكر أسرع إليه حاملاً مكنسة كهربائية صغيرة خاصة لتنظيف السيارات ليساعده في عمله وهو يقول في نفسه :
ـ قاتل الله الحسد والحساد ، نوبة سكري يا لها من مصيبة .