مستوصف متنقل

جاسم العبودي

[email protected]

لم تكن زيارتي لميورقة إعتباطا.. دُعيت إليها.. فحملتْ فطرتي بعضي وطرتُ إليها.. ولما وصلت مطارها تصفحتُ الوجوه فلم أر أحداً ينظر لي.. أو ينتظرني.. أو يبتسم كالعادة.. مضت ساعة.. ولّت أخرى.. لم يرن الهاتف.. حاولت الإتصال دون فائدة.. عندها أخذتُ الباص إلى فندق على الشاطئ .. نصف ساعة مشياً من مركز المدينة..

وهناك بدأت خيبة الأمل تطاردني.. فقلت: إما أن أسلِّم نفسي لشبح الكآبة.. أو أجد لها حلا سريعاً .. حينها قرّرتُ – من بين ما اجتهدت- أن أقضي صباحاً ساعتين جرياً على شاطئ ميورقة، وساعة أخرى مشياً في المساء..

كانت الساعة التاسعة صباحاً.. الهواء عليل.. بين الحين والآخر تنثّ حبيبات ندى.. فأشعر بدغدغتها على جبيني، رغم أننا في نهاية شهر ديسمبر.

أجري على الشاطئ من مقابل الفندق الذي أقطن فيه حتى ساعة كاملة جرياً خفيفاً.. أملا أن تكون العودة ساعة أخرى.

على شمالي البحر.. وعلى يميني حدائق متصلة.. تعانقت فيها أصناف النخيل والأشجار.. وقد حفّت بالزهور التي تخللتها المصاطب.

وبما أني ابن النخيل، كلما رأيته نخلة سمينة أرخيت جريي.. أجدد العهد لأول محبوبة عرفتها أيام حبوتُ على الفرات.. ولم يقطع تأملاتي إلا مرور همسات زافّة غزلان تمتطي الدراجات.. أو نباح كلب يرافق صاحبه هرولة.. أو جري غيداء بلباس قصير.. بعيداً عن فتاوي التكفير.. أو مفخخات تحرير الأندلس عبر ذبح الأبرياء في العراق..

أبتسم لذاك ... أو أُومئ لتلك بيدي خجولة تحية.. يا الله ! لا تردّ.. لا أحد يراني !.. ولا من يسمعني.. سوى أصوات النوارس تهزأ مني؛ وهي تقتنص سمكة، أو تحط على ظهر يخت من تلك اليخوت التي حالت أعناقها بيني وبين موج البحر.

وقبل نهاية الساعة.. لفت نظري سيارة صالون بألوان زاهية.. متوقفة جنب الشاطئ، لا أخفيك سراً، لم أر مثلها، والأدهى من ذلك أني لمحتُ قبل أن أصل من شباكها مُحيّاً كفلقة بدر... إقتربت ... قرأت على السيارة (مستوصف متنقل)..

بدأ خيالي يغور بحثاً عن أعذار... جلست على مصطبة قربها ... بحثت عن سيجارة لأقدح فيها مشعل أفكاري.. فلم أجد سوى محفظتي الشخصية ... وكلما سمعت حركة لويت عنقي أملاً أن ينفتح باب السيارة... كنت أسمع دقات قلبي، ليس من عادتي أن أتعرف على إنسان في عمله، لكني هذه المرة قررت أن أخوض غمار هذه التجربة.

رأسي يؤلمني.. لا.. بطني.. لا..  سخونة.. لا ، كيف ذلك ؟ وأنا أجري على شاطئ البحر. مضى نصف ساعة، حتى أوحي إليّ أن قدمي اليمنى قد إلتوت أثناء الجري..

لم أكن مختلقاً.. فهي قد رضّت قبل أكثر من سنتين. وانفتح الباب.. قفزت.. وأنا أعرج من قدمي.. ورغم نداوة الصباح.. كنت أشعر بعرق يتصبب من جبيني.. لا أدري حياء أو خوفاً..

نزلتْ من باب السيارة سيدة شقراء تعدّت الأربعين وبحضنها كلب بقدر الحمامة ... إيه ابن الكلب !، لا تفارقه حتى في العيادة ؟!..

أسرعتُ إلى الباب ... وقبل أن ألج الدخول ... قرأتُ "مستوصف متنقل للكلاب".