ربح البيع أبا فايز

ربح البيع أبا فايز

محمد الخليلي

[email protected]

شق أبو فايز جفنينه عن عينين متعبتين واهنتين متقرحتين وأيقظ زوجه في موهن من الليل قائلا لها لن أذهب اليوم إلى العمل ياأم فايز وربما لن أعود إليه البتة.

 فوجئت الزوج بهذا القرار الغريب من زوجها التي عرفته دؤوبا في عمله فمنذ عشر سنوات أي منذ أن تزوجا لم يتخلف عن الذهاب إلى صالونه الذي هو مصدر رزقه ، وأي رزق؟ إنه يدر عليه الكثير الكثير ؛ فهو يقع في وسط منطقة عمان الغربية وزبائنه من النساء الاتي هن من علية القوم ولا يناقشن في التسعيرة العالية التي يتقاضاها زوجها في صالونه المتخصص لتجميل السيدات ، ثم إن زوجها يحمل أوسمة متعددة وقد فاز أيضاً بمسابقات دولية لتصفيف شعر السيدات ، نعم إنها تتذكر تماما ً تلك الليلة التي حضرتها معه في باريس ساعة استلم زوجها كأس المسابقة . نظرت عن يمينها للتأكد من الكأس فقد أودعته بجانب سرير نومها ؛ لأنه مصدر فخرها بين صويحباتها الاتي يفاخرن بأزواجهن ، فهذه تقول إن زوجها مدير عام مؤسسة الإسكان ، وتلك ترد عليها مفاخرة بأن زوجها مدرس في الجامعة ، وأخرىتقاطعها قائلة إن زوجها تاجر ثري ويحضر لها في النهار ماتحلم به في الليل ، فترد عليهن أم فايز مزهوة : لكنكن جميعكن محتاجات لعمل زوجي ؛ إذ لاتستطعن الذهاب إلى أية حفلة صباحية كانت أم مسائية إلا إذا مررتن بأبي فايز ليجملكنَّ ، فاعترضتها الأولى قائلة : لوأنني مكانك لطلبت منه الطلاق فأنا امرأة غيورة ولا أطيق أن أرى زوجي يعبث برؤوس النساء أو ربما أعبث برأسه أيضا فأقطعه إرباً . فردت عليها الثانية : بل إن عمله عمل نبيل فمن دونه كما سبقتني أم فايز قبل قليل ستبدون قبيحات المنظر ولا تتجرأن حضور المحافل العامة و..قاطعتها الثالثة مردفة : إذا كانت كل امرأة ستغار من عمل زوجها النسائي ، فمن ذا الذي يعمل في هكذا مهن ، ثم ماذا عساها تفعل من كان زوجها طبيبا نسائيا ،عندها قالت أم فايز :أيتها النساء الثرثارات هذه قسمة ونصيب ، وكل عمل يعتبر شريفاً ، نسائيا كان أم رجالياً مالم يجن الرجل منه مالاً حراماً . عند ذلك تدخلت إحدى الحاضرات وهي سيدة محجبة وأدلت دلوها قائلة : صحيح ماقالته الأخت أم فايز إن أي عمل شريف مالم يخالطه حرام فهو كسب مشروع ،حتى لو كان العمل في الميادين النسائية فهناك الطبيب والممرض والأستاذ وغيرهم ممن يمتهنون الأعمال التي تجعلهم يحتكون مع النساء ، فهؤلاء لاتثريب عليهم ، أما عمل أبي فايز فإن لي فيه رأيا ً فهل تسمحن لي أن أبديه ؟ فقلن بصوت واحد : تفضلي ياأم مؤمن . نظرت إليهن وهن يتلهفن لسماع رأيها خلا الأولى فقد أظهرت تعابير وجهها أنها غير عابئة بما ستقوله أم مؤمن سلفا ، ثم تابعت : لوأنكن أيتها الأخوات ممن التزمن بالزي الشرعي الذي افترضه الله على النساء المؤمنات أمثالكن لما وجد أبو فايز وغيره عملاً بينكن و.. فقاطعتها الأولى قائلة ) :دخيل الله ياشيخة أنت أولا تعملين من الحبة قبة كما يقول المثل ، ثم إنك تحشرين الدين في كل دقيقة من دقائق الحياة الخاصة والعامة ، ياختي فـُكينا من هالدين تبعك وخلينا مروقين ) .

ضحكت أم مؤمن ولم تعاتبها على هذه المداخلة المتعجرفة مردفة :ياأختاه إن ديننا الحنيف يغطي كل جزئية من جزئيات حياتنا وهذا هو سر خلوده ، ثم إن هذا الدين ليس سبة علينا  ، لكنه مصدر عز لكل المسلمين .

قالت المرأة الثانية : لكن هذا الحجاب الذي ترتدينه ياأخت أم مؤمن كان مناسبا لأيام النبي صلى الله عليه وسلم أما في عصرنا هذا فإظهار مفاتن المرأة هو الأجمل .

فردت عليها أم مؤمن : إن الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان .

سألت المرأة الثالثة : لكنني ياأخت أم مؤمن أعرف أن الحجاب فرض عل آل بيت النبي وأزواجه فحسب .

أم مؤمن : الآية 59 من سورة الأحزاب يقول الله تعالى فيها )ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) ، كما يقول جلَّ جلاله في سورة النور: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولايبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ...) إذاً  فالأمر في الآيتين لنساء النبي وأزواجه وعموم نساء المؤمنين اللواتي أنتن منهن .

قالت المرأة الثالثة : ياجماعة عندي اليوم حفلة ويجب أن أذهب إلى (الكوافير ) فوراً فاعذروني ، باي .

التفتت أم فايز إلى صاحبتها أم مؤمن معتذرةً : أرجوك أن تسامحيني ياأختاه فهذه امرأة سفيهة ولايُعوَّل على كلامها .

ابتسمت أم مؤمن وقالت : لاعليك ياأم فايز فأنا داعية وأنصح أخواتي في الله ولله ،وهذه سبيل شائكة إذ إنني ألاقي تعنتا وصدوداً أكثر من هذا الذي أبدته المرأة المنصرفة . على أية حال خذي هذا الكتاب مني عله يعينكن على فهم كنه الحجاب وهو هدية مني لكُنَّ ، والآن أستطيع أن أقول لكُنَّ السلام عليكنَّ ..

كل هذه الخواطر كانت تجول في خاطر أم فايز ، فهي فعلا قرأت شيئا من الكتاب واقتنعت به ، لكنها تظن أن زوجها لن يسمح لها بارتداء الحجاب ، سيما وأن طبيعة عمله تتطلب ذلك ، وهل سيوافق على لبسها الزي الشرعي وهو الذي يقوم كل يوم بتصفيف شعر السيدات وتزيينهن ، ثم إنها لاتجد الجرأة في نفسها للبدء بهذه الخطوة الجبارة .

ولم يقطع مسلسل خواطرها إلا قول زوجها : أراك ساهمة ياأم فايز فبماذا عساها تفكر الحلوة ؟

التفتت بكامل جسمها إليه وطبعت قبلة على جبينه قائلة : في الحجاب ، وأظنك ستمانع ذلك وتقول لي لا يناسب عصرنا ويتنافى مع طبيعة عملي ( السبور) وو...

ابتسم أبو فايز بوجهها و طبع قبلتين على ظاهر كفها الغض ، ثم هب من سريره إلى الخزانة وانتزع منها (إيشاربا) وعاد فوضعه على رأس زوجته سائلا إياها : مارأيك بالزي الشرعي (يامدام )؟

الزوج : أنا متحيرة من تصرفاتك ! مالذي دعاك لتصحو قبل الفجر ؟

أبوفايز : أنا لم أنم طوال الليل وسأحل لك كل هذه الألغاز ولكن بعد أن نؤدي معا صلاة الفجر . قومي فأعدي لي مغتسلا حتى أتطهر وأتوضأ .

 لم يمض طويل وقت حين أعلن المؤذن صيحته المدوية في أرجاء الفضاء مؤذنا أذان الفجر الأول ، فكان أن خرج أبو فايز من الحمام وركع ركعتي القيام ، ثم جلس ينتظر النداء حتى يجيب المؤذن .

وبعد أن صليا الفجر سألته زوجه بإلحاح أن يقص عليها القصص قبل أن ينتبه الأولاد من نومهم للذهاب إلى المدرسة  ، فقال ودموع الفرح تنهمر من عينيه : قبل أسبوع يازوجي الحبيبة كنت أنصت لخطيب الجمعة وهو يعظ المؤمنين لتقوى الله وطاعته والابتعاد عن عصيانه ومخالفة أمره وقد تكلم فيما تكلم عن الحجاب والربا والصلاة وغيرها من المواضيع التي تهم المسلم في حياته اليومية . ومنذ ذاك اليوم والأفكار تتصارع في داخلي ، تؤرقني ليل نهار ، فبت لاأسيغ طعاما ولاأهنأ في شراب  ،ولا يلذ لي منام ولايطيب لي مقام ، حتى إذا بت الليلة رأيت فيما يرى النائم أني قد بعت الصالون وشرعت أصلي وبعت الأسهم التي اشتريناها من البنك بالربا ، كل هذا سأعمله  ابتداءً من يومي هذا ، فإن أنا مت فأكملي عني مابدأت به ، أما الأمر الذي كان يؤرقني فهو إقناعك بالحجاب .. ياالله كم أنت كريم !! وأجهش الرجل بالبكاء وتبعته زوجه ببكاء مر ثم مالبثا أن تعانقا ودعوا الله الرحيم أن يعينهما على إتمام (المشوار) الطويل الصعب . مدت الزوج يدها إلى سماعة الهاتف ، فقال لها زوجها : بمن تريدين أن تتصلي في هذه الساعة المبكرة ؟ فقالت : بأختي أم مؤمن كي أبشرها بحجابي ولاتقلق لأن هذه المرأة التقية تصلي فجرها ولاتنام بعده .

رفعت أم مؤمن السماعة قائلة : من معي ؟

فأجابت أم فايز :  أنا أم فايز .

أم مؤمن : ماالذي أفاقك في هذا الوقت المبكر ؟

أم فايز لقد صليت الفجر وزوجي جماعة .

أم مؤمن : (عال) جدا ثم ماذا ؟

أم فايز : إذا جئتني اليوم فستجدين مني مفاجأة كبيرة .

أم مؤمن : لعلك قرأت كتاب الحجاب فهل اقتنعت به ؟

أم فايز : قرأت منه القليل ولكن زوجي الحبيب هو الذي شجعني على الحجاب .

أم مؤمن وقد عُلم من صوتها أنها أجهشت بالبكاء : هذا من رحمة ربنا علينا جميعا يأختاه ، ألف مبروك إنشاء الله .

أم فايز : هناك حزمة كبيرة من الأخبار السارة ، ولكني لن أخبرك بها إلا بعد أن أدعو كلَّ صويحباتنا وأعمل لكُنَّ احتفالا كبيراً ، ولن أدعو أم ساري تلك الثرثارة التي جادلتك جدالا عقيماً المرة الماضية .

ردت عليها أم مؤمن والعبرة تكاد تخنقها : بل ادعيها فلعل الله يفتِّح أقفال قلبها .

أم فايز : أنا تحت أمرك ياأحبَّ صديقة ،إلى اللقاء .

أم مؤمن : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

استئذن أبو فايز من زوجته بالذهاب فسألته : لم يحن بعد وقت ذهابك لعملك فأنبأها أنه يريد أن يذهب إلى البنك كي ينهي عملياته الربوية معه ، وأخرج عبوة التبغ من جيب معطفه الأنيق فمزقها ورماها في سلة القمامة مردفا القول لاتدخين بعد اليوم يازوجي الحبيبة .  

وفي الصالون بدأ أبو فايز مرتبكا ، فهو لايريد أن يصفف شعر السيدات بيديه بل يطلب من الموظفات أن يقمن بذلك مبررا ذلك بإعياء شديد يعتريه . ومرت أيام وأسابيع والمعلم أبو فايز يهرب من زبوناته متعللا بالتعب الشديد .

وذات يوم حضر أبو فايز مبكرا ليعلق لافتة على باب الصالون مفادها :           ( الصالون للبيع) . فوجئت جميع الموظفات وبهتت كل الزبونات اللواتي يترددن على صالونه ؛ فهن جميعا فهن حرن في معرفة السبب الحقيقي لتغير مزاجه ، إذ لم يعرفن من التغييرات التي طرأت على حياته إلا أنهم رأينه يصلي وقد امتنع عن التدخين أيضا ً . لكنهن لم يفهمن كنه صمته المطبق وكونه يظل ساهما مدة طويلة . ليس غريبا على صاحب صالون نسائي أن يكون غير مدخن ، بل هناك من يصلي منهم ، لكن عدم أدائه واجبه اليومي في تصفيف شعر السيدات وتجميلهن أمر محير ، ثم  إن القارعة التي قرع بها الجميع هذا الصباح بأن أعلن عن بيع صالونه الذي يدر عليه دخلا وفيرا ؛ هذه فعلا  هي التي جعلت الجميع يقفون واجمين .

قالت إحدى الموظفات : إن معلمنا يمر بأزمة نفسية شديدة .

أضافت أخرى : بل إن لديه سراً عميقاً لايريد أن يبوح به لأحد .

فقالت الثالثة :لعل مشاكل في البيت بينه وبين زوجته ؟

ردت الأولى  : لاأظن ذلك ؛ لأن زوجته امرأة لطيفة جداً .

فتدخلت إحدى الزبونات : أبو فايز انسان عظيم وأنا أتردد على صالونه منذ عشر سنين لذا فأنا أوافق التي عزت ذلك إلى أزمة نفسية تلم به ، ثم رفعت يديها إلى السماء : اللهم اكشف كرب أبي فايز .

فرد أبو فايز آمين آمين ، فقد كان يسبِّح بعيد صلاة الظهر في الغرغة المجاورة ويسترق السمع لحديثهن . فشهقن كلهن بصوت واحد قائلات : أكنت تسمع  كل لغونا يامعلم فايز ؟!

قال : بلى وسأقص عليكم قصتي ...

وبعد  أن قص عليهم القصص قالت كبيرة الموظفات : لاتخف نجوت من العمل المهين ، والله لايخزيك الله أبداً ؛لأنك بر كريم وتحب الخير للجميع وتصل أرحامك فامض لما أنت فيه ماض وأنا معك حيثما ذهبت ،فأنا أعمل عندك من تسع سنين فما وجدت منك إلا لطف المعاملة وحسن العشرة ...

فقاطعها المعلم قائلاً : وهل تعلمون ان زوجتي قد التزمت بالحجاب .

فقالت الكبيرة : ياحبيبتي يامعلمتي .

سألت الزبونة : فماذا عساك تفعل وقد ناهزت الأربعين ؟

قال : سأعمل في التجارة ياأم فادي .

أم فادي : روح الله يوفقك ويغنيك .

كبيرة الموظفات : هل لاقيت عنتا من الناس منذ أن بدأت بهذه الطريق الجديدة .

المعلم : أجل ،فبعض الناس كانوا يهزأون بي ، والبعض الآخر كانوا يثبطونني ، وقلة هم الذين كانوا يشجعونني منهم زوجتي  وصاحبتها أم مؤمن .

وفجأة رن هاتف أبي فايز الخلوي فرد قائلا ً : ماذا تريد مني ياأبا سمير ؟ ألم تقل لي إن مشروعي فاشل ؟

أبو سمير : مبروك ياشيخ أبو فايز فقد بيعت العمارة كاملة والتسليم بعد شهر (إنتو الشيوخ لكم سر قاطع ) مع السلامة .

قال أبو فايز : هذه من دعوات زوجتي ودعوتك قبل قليل ياأم فادي ،فلأبشر زوجتي .

وفجأة رن هاتف أبي فايز مرة أخرى ، نظر إلى الشاشة فإذا به رقم زوجته  ،فقال : أهلا أم فايز ياوجه السعد ، أريد أن أبشرك بأن الصالون بل العمارة التي فيها الصالون كلها قد بيعت  ، فما أخبارك أنت ؟ قالت أبشرك أيضا بأن البنك قد اتصل معي لتوه فقد وافقت الإدارة على شراء الأسهم بفرق بسيط ؛ أي أن خسارتنا لن تكون كبيرة ، وهذه أم مؤمن تسلم عليك وتبارك لك وتقول لك ضع هذه الآية نصب عينيك حيثما حللت وأينما ارتحلت ، ففتح أبو فايز مكبر صوت الهاتف كي يسمع كل من حوله ، وبدأت أم مؤمن تجود الآيات بصوتها الندي : (ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا ) ولم تستطع أم مؤمن أن تحبس عبرتها فقد غلبها البكاء وكذاك أم فايز وهي تردد  الحمد لله الحمد لله فطفق كل من سمع الآيات على الهاتف يبكون  فبكتت أم فادي  ، وبكى أبو فايز حتى اخضلت لحيته .