نعم .. إرهابيون

نعم .. إرهابيون!

رائد عبد اللطيف

[email protected]

هذا الصباح كان مختلفا، فمنذ مدة ليست بالقصيرة لم تمنن يد الأيام بصيد يترقبه خليل كلما ذهب إلى الجامعة، فاليوم تعرَّف إلى شاب فِرنسي يدعى (ويليم)، قدُم ليتعلم اللغة العربية حيث اختصاص خليل.

السلام عليكم ، آي آم خليل . كان يو سبيك إنكليش؟

اسمي " فتحي" ويليم (سابقا). أنا من فرنسا .

كانت هذه بداية الحديث التعارفي المعتاد الذي يهتزُّ به لسان خليل كلما أراد اصطحاب صيد جديد إلى منزله المتطرف عن المدينة.. بيت عربي قديم استقر في قلب رابية خضراء تنبض بإبداعات الخالق ، تنبض بالعيون الجارية والأشجار العارية ، وتنبض بوحشة شتائية تغفو فوق صدر الرابية.

لا زالت الساعة تلحق أختها ببطء، والدهشة تمسك بأعصاب فتحي وتشدها، ولازال المجهول يحاصره كما تحاصر النار عود الثقاب منذ رضي أن يصحب خليل إلى بيته، لكن سرعان ما  بدأت نار الخوف تهدأ في صدر فتحي لمَا بدا له من دماثة ولطافة وأخلاق عالية، أبدها زملاء خليل عند دخوله إليهم ضيفا.

اختفى خليل عن الأنظار، بينما كان الأصدقاء يتجاذبون الحديث مع ذاك الفرنسي الوسيم ، صاحب الإطلالة المشرق ، والجمال الأخاذ، وكأنما جلله مولاه بدم ألذ من الشهد ، كان خليل يجهز الوليمة، وهذا سبب اختفائه.

غداء اليوم مختلف أيضا، قصعة من الثريد مجللة باللحم يتصدرها رأس خروف مطبوخ.. (الأشة): وليمة منقرضة لا يحصل عليها أي أحد،  كانت قد أرسلتها أم خليل مع زوادة الأسبوع التي ترسلها إلى ابنها النائي لطلب الدراسة، قدَّمها خليل لضيفه.

فتحي صاحب البسكوت والقهوة، استنكر بداية، بل ارتعدت فرائصه من هول المنظر، لكن سرعان ما غاص فأتى على القصعة, والنفس تقول: هل من مزيد؟!

أما خليل فكان يتقلى على الجمر، فما أتى بفتحي إلا لغاية في نفس يعقوب، ولكن- إلى الآن- لم يقضها.

فتحي، هل أنت مسلم ؟ (سأل خليل). ويبدو أن الحلقة بدأت.

نعم .. أسلمت منذ مدة، وكنت نصرانيا، لأمّ نصرانية ، وأبٍ لا ديني، أسلمت على يد "محمد" صديقي المسلم في فرنسا، شخص خلوق أعزّه كثيرا، ولا أنس ذلك اليوم  حين أجبرني على دخول المسجد – ولا أخفيكم أني كنت أرغب في ذلك – علمني الوضوء، وقال لي أن أقلده بما يفعل، الشيء الغريب ذلك اليوم ، أن شعورا غريبا هطل عليَّ كرذاذ الماء البارد في الجو القيظي، فما إن بدأ الشيخ بقراءة الكلمات إلا واقشعر لها جلدي، وسُلب بها لبي، وهبطت علي سكينة وسرور لم أحسها طوال حياتي في النصرانية، مع أني كنت أرافق أمي إلى كلّ صلاة في الكنيسة.

طلبتُ من محمد أن يعلمني تلك الكلمات، قال لي: إنها الفاتحة، ولم أنفك حتى تعلمتها، وكانت هي أول عهدي بالإسلام.

وهل علم أهلك، وما موقفهم ؟ (أردف خليل) .

في أوربا إذا بلغ الشخص الثامنة عشرة من عمره فليس لأحد السلطة عليه، والقانون يحميه، فله ما يشاء أن يفعل. كنت أمارس صلواتي الجديدة في الحمام جهلا مني، وخوفا من أن يُفتضح أمري، لكنّ أمي عرفت، بعدما سمعتني أردد كلمات المسلمين (على حد تعبيرها)، أخبرت أبي الذي ثار وهزَّأ وطردني لمدة من بيته، ثم عادت المياه إلى مجراها..

وكيف كنت تنظر، كغربي، إلى المسلمين؟ (قال خليل).

المسلم في فرنسا، رجل يطيل لحيته، متخلف، يحب شرب دماء الآخرين، إرهابي.. هكذا تصوره لنا الصحف وقنوات التلفزة.

والآن .. هل مازلت تعتقد بأننا إرهابيون. (مستنكرا!).

نعم .. إرهابيون . ( قال فتحي)

ساد صمت غريب، والكل يرمق فتحي بنظرة استغراب، وعينا خليل وقفتا دقيقة صمت، وكأنها تستهجن ما يحدث.

ما رأيكم بمن يأكل رأس خروف وأمعاءه، ويأتي على قصعة من الثريد، أليس إرهابيا؟!، هذا هو الإرهاب بعينه. (استأنف فتحي).

كلام فتحي هذا حول الصمت المخيف، إلى قهقهات وضحكات ملأت المكان، المكان الذي أحبَّ فتحي، ذاك الشاب الغربي المسلم الخلوق، وبدت جدران البيت القديم، تبتسم وترتل:

(... وجلعناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكمْ عند الله أتقاكُم).