بقايا حُلمٍ
بقايا حُلمٍ
نارين عمر
انْصَهرَتْ أحلامُهُ كلهّا في حلمٍ وحيدٍ طالما حَلُمَ بتحقيقه. تتلخّصُ في عودتِهِ إلى بيتِهِ أوّلَ كلّ شهرٍ وجزيئاتٌ من راتبِهِ المرقّع تظلُّ قابعةً في جيبهِ, فلا يطاردُهُ شبحُ البقّالِ,ولا يجرُّ سترتهُ السّاترةُ لكلومٍ تنتظرُ الآسَ بائعُ الألبسةِ العتيقةِ.
-أمعقولٌ...؟لا...لا يجوزُ,يجبُ أنْ أجدَهُ في استقبالي,مرحّباً بي بحفاوةٍ ما بعدها حفاوة. منادياً بدبلوماسيتهِ المعتادة:
-كما تعلمُ يا جارَنا(العينُ بصيرةٌ واليدُ قصيرةٌ), عليكَ بالدّفع المبكرِ هذا الشّهرَ.
-أمْهلني لبعض الوقتِ أرجوكَ.
-آسفٌ عيوني كما أخبرْتكَ...آهٍ...على فكرة قبل أنْ ألاقيك, لاقيتُ أبا سعدٍ وقد دفعَ لي أجرة البيتِ أضعافَ ما تدفعهُ أنتَ, لكنّني رفضتُ...
شيَمي...أخلاقي مَنَعتني من فعلِ ذلك, وأكدّتُ له أنّكَ طيّبٌ على الرّغم من كلّ علاتكَ و...و...
-فهمتُ ...فهمتُ...جزاكَ الُله خيرا.ً
الشّخصُ الوحيدُ الذي لمْ يكنْ يلمحُ له مِنْ طيفٍ ؟! كان القصّاب لأنّهم يتلذذونَ باللّحم حصراً في المناسباتِ الهامّة والخاصّة جدّاً... جدّاً.
لذلكَ كانَ يستغلُّ هذا الأمرَ, فيمشي في سوقِ القصّابينَ بهامّةٍ عاليةٍ,وجبينٍ شامخٍ يكادُ يصارعُ كلّ علوّ وشموخٍ يصادفه.
بينَ الفينةِ والأخرى, كانَ يلتقطُ ورقةً من إحدى الصّحفِ من هنا وهناك, وبينا هو يتصفّحُ إحداها ذاتَ يوم أحسّ بعينيه تتراقصانِ,ثمّ تزدادانِ سعةً وانفتاحاً.
- ماذا...؟ما...ماذا...؟؟شركةٌ...كبرى بحاجةٍ إلى موظفينَ وعمّالٍ ضمن الاختصاصاتِ التّالية... ... ...
وضمن الشّروط المدرجةِ أدناه... ... ...
بصوتٍ عالٍ لمْ يألفه زملاؤُهُ من قبلُ صرخَ:
- وَجَدْتُها, نعمْ وجدْتها...
وداعا أيُّها الفقرُ...أهلاً بالخصبِ والخيرِ .... أولادي... وأنتمْ أيّها الّزملاءُ الأعزاءُ:
-أبشروا, الخيرُ قادمٌ.
بين دهشةِ الزّملاءِ, واستغرابهم, غادر َالدّائرةَ ...إلى أين؟! لا يدري.
فجأة وجدَ نفسَهُ راضخة لأوامرِ قدميهِ اللّتينِ جرّتاه إلى....؟؟!!
-مرحباً آنستي أنتمْ مَنْ نشرتُمُ ا لإعلانَ المتضمِّنَ ....؟
-نعمْ....هلْ ترغبُ في المشاركةِ ؟
-طبعاً .... طبعاً ....
- والمبسمِ قرصَ الهاتفِ...
-ألو أستاذ...متسابقٌ جديد.ٌ
-انتظرْ لبعضِ الوقتِ يا أستاذ, موجّهةً بكلامها إليهِ, ثمّ طأطأتْ برأسِها نحْوَ أوراقٍ مكوّمةٍ على الطّاولةِ أمامها تتصفّحُها.
أمّا صاحبُنا فقد بدأتْ قَدَمُهُ اليُمْنى تؤدّي رقصةً هادئة,سرعان ما تحوّلتْ إلى رقصةِ الصّرعةِ, كما تسمّى في يومِنا هذا, بعد أنْ تضامنتْ معها القدمُ الأخرى, حتّى تجاوَبتْ سائرُ أعضاءِ الجسمِ الأخرى, ليتحوّلَ جسدُهُ برمّتِهِ إلى حلقةِ دبكةٍ, أثارَتْ انتباهَ الآنسةِ النّاعمةِ...
-هدّئ من روعِكَ يا أستاذ ,كما تعلمُ هناك مَنْ همُ أحقّ منكَ بالدّخولِ, لأنّهم وصلوا قبلكَ.
هدأ قليلاً وكأنّه أرادَ أنْ يمنحَ جسدَهُ فترة استراحةٍ قصيرةٍ.
-تفضّلْ يا أستاذ, جاءَ دورُكَ...يا سيّدُ تفضّلْ...يا أخ...يا...
وبنظرةٍ خاطفةٍ إلى الآنسةِ, وجدَها غارقةً في موجةٍ من الدّهشةِ والحيرةِ.
-تفضّل ...جاءَ دورُكَ...-آسفٌ آنستي ...شكراً لكِ
بعد لحظاتٍ من العدّ والرّد خرجَ وهو يحاولُ أن يزيلَما تبقّى من قطراتِ العرقِ الغازية لعمقِ جبينِهِ ومفْرقيهِ
ثمّ التفتَ إلى الآنسةِ:
- عفواً متى ستظهرُ النتيجةُ؟؟
-بعد أيّامٍ...إنْ شاءَ اللهُ.
توجّه نحو البيتِ, وما إن فتحَ البابَ, حتى صَدَحَ:
-ابشري يا امرأة...المالُ قادمٌ...والغدُ المشرقُ آتٍ...أولادي ...يا أعزّ الأولادِ:
الغدُ لكم, وبعدهُ وما بعدَهُ..
بين دهشةٍ وحيرةٍ, وخوفٍ وقلقٍ, تساءلتْ زوجتُهُ:
-ما بكَ يا رجلُ؟ماذا تقولُ؟!
-أبي, هلْ ربحْتَ ورقة اليانصيبِ؟قالها ابنُهُ الأكبَرُ.
-أبي, هلْ عثَرْتَ على كنزٍ؟قالتْها ابنتُهُ الصّغرى..
-لا...لا, أبي عَثَرَ على خزانةٍ, كالتي عثرَ عليها والدُ صديقي,إنّه غنّيٌّ جدّاً
صديقي يقولُ:إنّ أبي أطلقَ على أخي الأوسط اسمَ عبد الغني, لأنّهُ عثرَ على خزانةٍ ملأى بالنّقودِ في العام
الذي وُلدَ أخي فيه وتحديداً حين استلامِهِ لوظيفتهِ.
أنْهى ولدُه الأصغرُ عبثه الطّفولي من دون أنْ يدريَ أنّ ما قاله كان بمثابةِ الصّاعقةِ خرقتْ بدويّها طبقاتِ
أذُنِ والدِهِ كلّها, حتّى كادتْ تسحقُ كلّ أثرٍ للإرسالِ فيه.
تداخَلَ الغدُ بالأمسِ, والحاضرُ بالماضي عبوراً للقادمِ.
-أبي طلبتْ إلينا المدرسةُ دفعَ المبلغِ المدوّنِ في هذه الورقةِ للاشتراكِ في الرّحلةِ المدرسيّةِ التي سيشاركُ فيها معظمُ زملائي.
-بنيّ...أجّلْ رحلتكَ هذه المرّة إكراماً لي, وأعدكَ في المرّةِ القادمةِ أنْ أضاعِفَ لك المبْلغَ لتتباهى بهِ أمامَ زملائِكَ.
-يا رجل أمسكْ هذه الأوراق...تقولُ زوجتُهُ.
-ماذا...؟فاتورة الكهرباءِ...الماءِ...وهذه أيضاً...؟فاتورة النّظافة؟؟؟
-حسناً وسّعي صدْرَكِ وقلبكِ يا أمّ الأولادِ,انتظري لبعضِ الوقتِ,لتجعلي وفي ظرفِ شهورٍ فقط كلّ هؤلاءِ الجباةِ رهْنَ إشارةٍ من أناملِكِ الخَيّرةِ.
- يا جارُ, التّاجرُ عيلَ صبراً...ولمعلوماتكَ,وحياةِ شاربيك َ, كلّ هذه الموادِ المتراكمةِ ضمْنَ هذه الفسحةِ المربّعة الشّكلِ/إشارة إلى حانوتِهِ/هي ملكٌ للتاجرِ. قالها صاحبُ البقاليةِ.
--هلْ مِنْ أخبارٍ يا صاحبي؟ قالها زميلُهُ في الدّائرةِ بباستخفافٍ.
-لا...لكنّها ستأتي.على فكرة هذه الكرافيتة المرقّعة ارْمِها منذ الآن,وأنتَ يازميلي حذاؤكَ الوطنيُّ يجب استبداله بالإيطاليّ.فالإيطاليُّ وحدهُ يليقُ بصاحبِ رجلِ الأعمالِ العظيم(مشيراً إلى نفسِهِ, بعدما دفَعَ بصدْرِهِ إلى الأمامِ مزهوّاً).
سمِعَ صراخَ أولادِهِ في الدّاخلِ:
- بابا جودي يصرّ على أنّهُ سيتعلمُ السّواقة قبلنا,وما زلتُ أبذلُ قصارى جهدي لإقناعه بأنّي الأخُ الأكبرُ ومن حقي فعل ذلك.قالها ابنه نوح.
-أبي, زمزم تحاولُ احتلالَ غرفتي التي اخترتُها في البنايةِ الجديدةِ.
وتلمحُ رؤاهُ صدفةً ورقة التّقويمِ,ليخرُجَ مندفعاً إلى الهاتفِ العموميّ ويديرَ قرصَ الهاتفِ...
-ألو...مرحباً آنستي ,أنا المتسابقُ....ماذا عن النّتيجةِ؟!
الرّدُّ يأتيهِ كالصّاعقةِ الهدّارةِ,يجعله يدورُ حول نفسِهِ يمنةً ويسرةً.
-آسفة سيّدي,أتمنّى أنَ يحالفكَ الحظّ في المرّةِ القادمةِ.
- تتمنّين؟؟ وماذا تفيدني تمنّياتكِ؟؟
- يا ربّ...ماذا أصابني؟؟ لا أذكُرُ أنّ ثغريَ المسكين قد لامسَ مرّة تلك الأنبوبةَ السّاحرةَ.ما سرّ هذا الهَذَيان؟
هذا المَيَلان؟؟
-خطواتي؟لِمَ أراها تزدادُ ثقلاً فوق ثقلي؟
-تمالكْ نفسكَ يا رجلُ...قالها لنفسه...ربّما يحالفكَ الحظّ في المرّةِ القادمةِ, هذا ما تمنّته الآنسةُ السّاحرةُ المبسمِ.
-صدقتَ.ويهزّ رأسه ليخفّفَ من وطأةِ الثّقلِ المحاصِرِ لقدميْهِ.
ما إن يتسللُ إلى بوّابةِ حارتِهِ,حتى يلمحَ طيفَ ولدِهِ الصّغيرِ يهرعُ إليه.
-بابا...لقد أصبحتَ مهمّاً ....
- مهمّا ,أنا ...كيفَ يا بنّيّ...؟؟!
-نعم يا بابا,بيتنا يضجّ بعددٍ كبيرٍ من الرّجالّ, وأمّي تبكي, وتقولُ:
-أرجوكَ يا سيّدي.سوف نسدّدُ ما علينا في أوّل الشّهر.
-حاضرٌ يا جار,مع أوّل الشّهر سيأتي الفرجُ.
تلاطمتِ الصّورُ في مخيّلتِهِ,لتزاحمَ السّمنة الزّيتُ,وهذا بدورِهِ يقلي الباذنجان, والنّورُ يطفو مرّة, ويترسّبُ أخرى, إثرَ عناقِهِ لرذاذات الماءِ المتناثرة, لتولّدَ اهتزازاتٍ تعانقُ القلبَ والقالبَ معاً.