سحق
سحق
محمد صباح الحواصلي
كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة
ارتطم رأسي بأرض صلبة موحلة اثر رفسة عنيفة غير مفاجئة تلقيتها بمؤخرتي. كان ارتطاما فظيعا لدرجة أنني شعرت وكأن رأسي قد فصل عن جسدي. أوشكت أن أصرخ وأملأ الدنيا سخطا واحتجاجا لولا أن حذاء ضخما قد أخرسني بشراسة ودربة بأن غطى أديم وجهي كله فأصبح من المتعذر علي أن أصرخ بل أن انبس بكلمة. فالحذاء أنشب في جماع رأسي ألما رهيبا أنساني الاحتجاج.. أنساني حتى كرامتي! ولا أدري ما الذي أقحم طفولتي في تلك اللحظات المأساوية! ربما لما حظيت به هذه الطفولة من وعود بمستقبل زاهر آمن سعيد.
تمكنت من التقاط مقدار ضئيل من الهواء, إذ استطاع فمي أن يختلس مسكة من نفس فيما كانت القدم تمرغ وجهي بسادية وشراسة. كان أنفي مسحوقا بكل ما فيه من كبرياء وتاريخ وقصائد. وعندما استعصى علي أن أفوز بغبة هواء أخرى أدركت أن الأنفاس التي فزت بها كانت الأخيرة. تلويت كأرنب مذبوح ورأسي مثبت تحت القدم كأنه دق بإسفين في أرض الوطن.
قلت في سري والقدم ما تزال تمرغ رأسي بلا رحمة: لا بد أن صاحب القدم سوف يرحمني ويترك رأسي عله يتذكر أننا من قوم واحد نعيش تحت سماء واحدة, وأنه لو عاد بذاكرته إلى الوراء فربما جمعتنا مدرسة واحدة أو لقاء في مقهى أو عرس في قرية. ولكن عندما أمعن في سحق رأسي لم أجد أمامي إلا الصبر على ألمي منتظرا نزول الخلاص من السماء. وفي اللحظة التي حسبت أنه سيدع رأسي كانت قدمه تزيد من ضغطها حتى شعرت بأن عيني ستخرجان من تجويفيهما, وأرتفع اثر ضغطة عنيفة نصف جسدي السفلي. رباه.. إنني أسألك الرحمة. تناهى إليّ لغط صاخب لم أفهم منه شيئا بل أحسست أن عصا تندس بخلفيتي. تفجرت صرخة مخنوقة من أعماقي.. من صلب ذلك الزمن السعيد الآمن الذي ما يزال حبيسا في قمم أحلامي.
بشرة وجهي انسلخت, والعصا ولجت, والضحك يرجمني من كل جانب, لأنني بدوت مضحكا وما العجب في ذلك وأنا الذي ما شككت يوما بشجاعتي!
الضغط مستمر.. من فوق ومن تحت..
تكسر في أعلى جمجمتي يهرق ما فيها من آمال وذكريات وحكايات, ويجعل من رأسي كتلة ألم فقدت معالمها الإنسانية, كتلة بشعة غارقة بسائل أحمر رخيص يسيل من تكسرات جمجمة مهدورة الأحلام.
فجأة, بدأت أشعر بانسحاب الألم ليتمركز في موقعه خدر بدا وكأن ملايين النمل تأكل رأسي إلى أن غاب عني كل شيء, ولم أعد أشعر أن قدما ثقيلة تسحق رأسي, وأن عصا تلج أستي, وأن هؤلاء الذين كانوا يقومون بطقوس سحقي قد انهوا مهمتهم. اختلجت اختلاجه واحدة وسكنت بعدها سكون الموت المريح.
كنت مصلوبا على الأرض الموحلة على نحو يثير الشفقة والقرف معا. وكانت عيناي المسحوقتان مفتوحتين وقد ظهر انسانيهما وسط كتلة رأسي المدماة وهما ينظران بخيبة إلى سماء الوطن وقد غشيهما غشاء رقيق أعطاهما الشكل الدرامي للموت الحزين.
قتلتي يدنون الآن من جثتي, يصادر أحدهم قلمي, ويسحب آخر من جيب سترتي الداخلية أوراقي وهويتي, ثم يدلفون على طول الطريق الأخضر وهم مدججون بالسلاح وقد خلفوا وراءهم جثتي الحزينة التي سرعان ما انتصبت واقفة, ثم انخرطت سائرة مع ملايين الموتى الأحياء مثلي الذين غصت بهم شوارع مدينتي وبوابات السفارات الأجنبية.