خياط في قبيلة العراة

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

وصل الرجل الخياط أخيرا إلى هذه القبيلة في قلب افريقيا برفقة لجنة الإغاثة ، ما عساه أن يعمل بين هذا المجتمع البدائي الغريب كأنه نموذج حي لإنسان ينتسب إلى العصر الحجري أوما قبل التاريخ ، إن حياتهم تنحصر في كوخ حقير أو بما يسمونه العشش جدرانها مبنية من الطين والتبن ، وسارية من جذع الأشجارتتوسط المبنى الدائري وسقفها من أغصان الأشجارأو جريد النخيل ، يسكنون قريبا من إحدى روافد النهر العظيم ، ويعيشون على الزراعة والرعي وتربية المواشي وبعض الدواجن ، إلا أن أهم ما يميز حياتهم ، والذي لفت نظره بشكل غريب أن جميع القوم عراة ، كبارا وصغارا ، شيبا وشبابا ، رجالا ونساء ! .

سألهم أحد مسؤلي فرق الإغاثة الإسلامية الوافدين إلى هذه البقعة النائية لمساعدة الجوعى في هذه القارة السمراء حين كان يقف بجانبه ويتابع حديثه مع هذه القبائل الغريبة الأطوار.

قال الشيخ : لماذا لا تسترون أجسادكم ؟

 ولماذا نستر أجسادنا وقد خلقنا الله كذلك .

 تغطون عوراتكم ، ألا تخجلون من بقائها مكشوفة عليكم وبينكم ؟

 إنها جميلة وليس فيها ما يشيننا حتى نخجل من تركها مكشوفة ! .

 إن كانت المشكلة في الثياب أو نوعا معينا منها يعجبكم دون غيرها فسنساعدكم بإحضارها وتجهيزها ، ولدينا خياطون ماهرون يفصلون لكم الملابس بما يناسب أذواقكم وبيئتكم وبحسب رغبتكم إن كان لباسنا لا يناسبكم .

 كأنك تظن أننا في مشكلة من حالنا هذا ؟ لا يا سعادة الشيخ ، نحن سعيدون بهذا الوضع فلقد خلقنا الله على هذه الحالة ونحن لا نرضى بغيرها ، أما إن كان لديكم أنتم مشكلة في أجسادكم ، تخجلون منها أوما تخشون من إظهاره أمام الآخرين فهذه مشكلتكم أنتم وليست مشكلتنا نحن !

وهنا أصبح الإستمرار في النقاش عبثا وجدلا لا طائل منه ، فلقد قطعت جهيزة قول كل خطيب .

أوقات فراغهم الكثيرة ومناسباتهم المتعددة يقضونها بين الرقص وألعاب المصارعة التي يقيمونها والمبارزات التي ينظمونها والحماس الشديد من المتفرجين الذين يتابعونها وقد انقسموا إلى فريقين ليشجع كل فريق بطله المحبوب ، وقد شد انتباهه ولفت نظره هوايتهم المفضلة وتعلقهم الشديد بالرسم والألوان من مستحضرات الطبيعة على أجسادهم بعيدان الفحم والأزهار البرية وأوراق الأشجار وأغصانها ،

فطاف في ذهنة فكرة ابتسم لها في سره واطمأنت لها نفسه ليجربها مع هؤلاء البشر البدائيين ، الذين لا ينفع معهم منطق أو عقل ، ولا يقنعهم كلام معسول ولا يغريهم مال مبذول ، وإنما شعارهم ودثارهم – وهم الذين بلا شعار ولا دثار – إنا وجدنا أجدادنا على هذا وإنا على نهجهم سائرون وعلى طريقتهم ثابتون ، مهما رأينا الناس من حولنا مختلفين وينظرون لنا غائظين وعلى عاداتنا محتجين ولو كانوا منها مشمئزين ,

قام الخياط الذكي بخياطة سروال قصير واسع فضفاض ، وقد اختار قماشه الحريري الناعم من نوع تتداخل فيه الألوان الصارخة والفاقعة بشكل كبير، واختار رسومه بما يناسب بيئتهم مستمدا ذلك من الرسوم والزخارف التي ينقشونها على أجسادهم ، وانتظر إحدى المناسبات الهامة التي تقوم فيها المبارزات بين المتصارعين ليعلن وقوفه إلى جانب أحدهم ، ممن يظن فيه قوة العضلات وخفة الحركات ويتوقع فوزه على خصمه لتشجيعه خلال المبارزة ، استغل هذه المناسبة وقبل بداية المباراة ومع اشتداد وارتفاع أصوات التشجيع ، انسل إلى الأمام متقدما إلى وسط الحلقة التي يقف بداخلها البطلان وهو يحمل مفاجأته من سرواله المزركش ، ويتقدم نحو بطله الذي يشجعه فيعانقه ويطريه هامسا ببضع كلمات تعلمها خلال وجوده بينهم ، ثم نشر السروال المزركش بألوانه المتداخلة أمام جمهور المشجعين ، فارتفعت الأصوات واستشاط الجمهور حماسا على هذه اللوحة الفنية كشعار لبطلهم الذي يشجعونه ، وهنا رأى أن اللحظة التي خطط لها قد حانت فاقترب من بطله الذي يشجعله مناولا إياه هذا الشعار الذي يميزه عن خصمه وقد يجلب له حظ الفوز والانتصار .

وكان الفوز حليف بطله فعلا وقد نال ذلك الأمر إعجاب البطل والجمهور ، وانهالت عليه بعد ذلك طلبات السراويل من المتصارعين حتى أصبحت عرفا وشعارا بل أمرا لازما يلبس في هذه المباريات .

بعد فترة ليست بالطويلة من هذه الحادثة السعيدة والمفاجئة ، أصبح هذا الخياط الذكي أشهر رجل في القبيلة لما يقوم به من خياطة جميلة ترضي أذواق الأبطال من الرياضيين وغيرهم .

بعد عشر سنوات من هذه الحادثة كانت زيارة ثانية للجنة الإغاثة الإسلامية وكانت لهم المفاجأة عظيمة ، إذ وجدوا جميع أفراد القبيلة شيبا وشبابا صغارا وكبارا رجالا ونساء ، يلبسون الثياب ويتباهون بها فيما بينهم بسبب هذا الخياط الذكي وفكرته الملهمة .