موت!
جُمان يوسف النتشة
كلية الطب - جامعة القدس/ فلسطين
فـُـتح الباب سريعاً.. وولجنا وحدة العناية المركزة.. كان على جانب الباب ابنها الذي لازمها عشرة أيام في ليلها ونهارها.. كان يشهق كأن روحه ستفيض.. كان يختنق..
حدثتني نفسي أن أرجع.. فأنا لست مجبرة على الدخول.. لكني وجدتني أندفع مع المندفعين.. وأصل إلى الغرفة الداخلية من الوحدة.. حيث كانت المريضة التي سلمنا عليها قبل أيام، وابتسمت لنا.. ودعت لنا.. - كانت ملقاةً على السرير.. فوق رأسها طبيبٌ وعلى يمينها طبيب.. والممرضات في هلع.. ونحن في ذهول..
كان الجهاز المعلق إلى أعلى يسارها يصفر.. كأنه إنذارٌ بخطرٍ قريب..
ثمّ في لحظةٍ واحدة.. انتفضت المريضة شاهقة بعمق.. صار صوت الصفير ثابتاً.. واستقام تخطيط قلبها.. ثمّ سار على نهجه منحنى تنفسها..
فاضت روحها.. وخرجت من الدنيا!..
لحظةٌ واحدةٌ فصلت بينها وبيننا.. أخذتها بعيداً.. إلى حياةٍ أخرى..
انتهى دورها هنا.. ويجب أن تعيش الدور الآخر هناك..
لن تضم ابنها المحترق خارجاً.. ولن تحمل ابنتها ذات الأعوام الخمسة بعد الآن..
لقد رحلتْ عنهم..
لقد ماتت!
نظر الطبيب إلى عينيها.. ثم أغمضهما..
ألقى ما بيده بابتسامةٍ محرقة.. ابتسامة سخريةٍ أو فشل.. لست أدري!
ثم نظر إليها وقال : الله يرحمك..
وخرج!
وخرجتُ!..
لم أكن أعلم إلى أين.. لكنّي تعديت الأطباء المجتمعين خارج الغرفة.. والطلاب.. والأهل المنتظرين.. والوجوه المترقّبة المصفرّة.. والأصوات المتأوهة.. والدموع!
مررت عن كل هؤلاء.. وسرتُ لا أدري وجهة أو سبيلاً.. كنت أندفع وحدي.. حتى وجدتني أقف في حديقة المستشفى.. بعيداً.. حيث أنا، والحياة الدنيا!
الأشجار العالية جداً.. والهواء البارد.. والسماء متزاحمة الغيوم.. وجبال القدس الممتدة الأطرف بزيتونها.. والكون من حولي.. والألم..
كنت حتى اللحظة لم أدرك الذي رأيته.. ولم تتقاطر عيني..
استندت قليلاً.. استمعت إلى سورة الزمر ونبض ِ قلبيَ الباكي.. ثمّ بدأتُ تلهبني عبراتي لمّا يهبّ عليها الهواء..
سقط من الشجرة التي ظللتني غصنٌ صغير أودع الحياة جسمَه.. ونعق غرابٌ يذكـّـر بالموت الأول.. وصفرت الريح..
كانت الآيات تتابع وتمضي.. تقصُّ عليّ قصة الكون.. أسمعها كأني أسمعها أول مرة.. وأرى السماء كأني ما طالعتها قبل الآن..
الأرض كانت حزينة.. والشجرات تذهب وتجيء مع البرد القارص.. مترنمة على أوتار ذاك الحزن..
كل شيء كان ساكناً.. يشهد القصة معي.. ويتابع أحداث الرواية بصمت..
"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (1)
"اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (1)
"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (1)
"أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ" (1)
"وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ" (1)
لا إله إلا أنت سبحانك.. إني كنت من الظالمين!
يا رب..
"اغفر لضعفي ما ألمّ بمهجتي.. مَنْ للنوائب غيركم.. والمستعان؟!"
(1) آيات من سورة الزمر.