أكثر من عينين

أكثر من عينين

عبير الطنطاوي

[email protected]

أيقظت زوجي والآلام تعكر صفو وجهي . نظر إلي باستغراب وقال :

ـ ما بك ؟

قلت له متصنعة الشدة :

ـ يبدو أنها آلام المخاض . أنهي بعض مهمات عملك إلى أن أتصل بك .

قام من سريره متثاقلاً فأمامه يوم ثقيل وصعب ؛ فهو لا يحتمل الآلام والمستشفيات  .

بعد أن أتم فطوره قال برجاء :

ـ لعلك على خطأ .

قلت له مبتسمة :

ـ لا بأس . المهم كن على اتصال بي .

ودعته وتوجهت نحو طفلي الصغيرين ولم تعد دموعي تعرف لها قرارا . استيقظ الصغيران على لمسات قبلاتي على يديهما ورجليهما ووجهيهما تساءلا عن السبب قلت وأنا أتصنع الفرح :

ـ ستذهب ماما اليوم للمشفى لتحضر لكما أختكما .

قفز الصغيران فرحاً يقبلاني .

في تلك الساعات الثقيلة اشتدت الآلام وأنا أنظف لهما غرفتهما وأغسلهما وأحضر لهما الطعام ودموعي تنهمر خوفاً من المجهول القادم وكيف سأتركهما ليلة ويوم وهل سأعود حقا إن شاء الله !

في السيارة مشاعر أمومة مضطربة مختلطة أتذكر أيام الحمل الرائعة وهذا الجنين ينمو في أحشائي رويداً رويداً وأتذكر كلمة زوجي :

ـ تنامين فلا يوقظك شيء في الدنيا لا كلامي في الهاتف فوق أذنيك ولا أي شيء سوى كلمة ماما تسمعينها من الغرفة البعيدة .

وصديقتي حين قالت :

ـ صدقيني أنت مريضة .. ما بك ما هكذا الأمهات قوي قلبك .

صورة ولدي لا تفارقني وهو يحبس دمعة حزينة ويقول متصلباً :

ـ عودي بسرعة .

وتلك الصغيرة التي نطقت بكلمات لا أدري من أين جاءت بها :

ـ لا تبك علينا . نحن بسلام إبك على نفسك .

أسمع أمي تتحدث وزوجي وأمه أبتسم للجميع ثم أشيح بوجهي وأبكي شوقاً للحبيبين لمقلتي العين لرئتي اللتين أشم الهواء بهما لروح الروح وأدعي أني أبكي من الألم .

كنت أقول في سري :

ـ لن أحب ولداً أكثر من ولديّ ولو بعث الله لي ملكة جمال العالم .

بعد ساعات من آلام المخاض الشديدة بدأت أرى الممرضات تتعكر وجوههن ويطالبنني بأن أغطي رأسي ليدخل طبيب الأطفال يتابع حالة الجنين على جهاز ضربات قلب الجنين قربي . بدأ قلبي يخفق وأنا أرى الطبيب يدخل بين فترة وأخرى ويدور الحديث بين الكادر الطبي بالإنكليزية حتى حضرت الطبيبة أخيراً تقول :

ـ الأم تعبانة جداً وهذا أثر على حالة الجنين حتى أنه قد أخرج في بطن الأم مما قد يسبب بالتسمم لجسم الأم والجنين وقد نضطر لإجراء جراحة لإنقاذ الطرفين .

شعرت وقتها أن من في بطني جزء مني ثالث وليس فقط من تركت في البيت وبدأت ألهج بالدعاء لربي أن ينقذنا . الخوف خيم على الوجوه حتى لمحت دمعة حرى على عين أم زوجي وهي تتوسل الممرضة أن تستدعي الطبيبة الخاصة وتحتمل سوء معاملة الممرضات في سبيل استجذاب الرحمة لي ورأيت من كنت أظنه فظاً لا يلين (زوجي) يرتجف خوفاً ويهرب من المبنى كله مخبئاً دموعه حتى كان كبته سبباً في نزيف حصل له في أنفه حيث كنت أنا على سرير الولادة وهو في غرفة الطوارئ يعالجه الأطباء ؛ أما أمي فتلهج بدعاء حار ملهوف .

في لحظة شعرت أن مخافة الله تعالى قد اختفت من قلوب الأطباء والطبيبات وكأنها مؤامرة معقودة بين طبيبتي التي وضعت ثقتي بها وبين المستشفى وهذه المؤامرة عبارة عن تركي أعاني وربما ترك الجنين لآخر لحظة دون مساعدة لتبرير إجراء الجراحة وقبض المبالغ الطائلة منها .

في اللحظات الأخيرة شعرت أني سأفقد فلذة كبدي التي حملتها تسعة أشهر نسيت نفسي ونظرة من حولي لي ولم أعد أرى الأطباء والممرضات حولي؛  وبدأت أمومتي تصرخ :

ـ أنقذوا ولدي ساعدوا الجنين , الولد سيختنق إن لم تساعدوني على الولادة .

رأيت نظرات الممرضات الخائفة وهن يركضن نحو الباب يغلقنه علي لكي لا يسمع صوتي في الخارج وأنا أصرخ وأتلفظ بعبارات لا أدري كيف تلفظتها بحق الطبيبة السفاحة التي أهملت في حقي وحق جنيني وخلال عشر دقائق كانت الصغيرة تبكي بين ذراعي الممرضات ولما سمعت صوتها بكيت من قلبي فرحاً بنعمة الله وحزنا على بطني الذي غدا فارغا منها فقد كنت سعيدة بها وأنا أشعر بحركاتها وسكناتها أما الآن فستصبح لها حياتها الخاصة التي أرجو المولى أن تكون طويلة سعيدة برضى المولى .

لما خرجت من غرفة الولادة رأيت الدموع في عيون من حولي وقد سجدن سجود الشكر للمولى على نجاتي ونجاة صغيرتي وبدأت الهواتف توضع على أذني تهنئ بالسلامة بينما كان قلبي ولساني يسأل عن الصغيرة وكيف حالها ومن رآها ؟ فعلمت أن الجميع قد رآها وتعرف عليها إلا أنا الأم آخر من رآها.

علمت أن للأم أكثر من عينين ورئتين بعدد أولادها.