الجمّار
الجمّار..!
عبد الله لالي
بسكرة الجزائر
قال أبي:
- هذه ريح شديدة ..سيسقط كثير من النّخل ( الهرم ) الليلة.. ثمّ سكت لحظة؛ ليفترّ ثغره عن ابتسامة عذبة، ثمّ استدرك:
- ولكن لا بأس.. سنأكل غدا الجمّار بترف..
انطبعت هذه الكلمة الجديدة في ذهني بشكل استفزازي وكأنّي عثرت بطلسم جديد من طلاسم الحياة التي ينبغي أن أفك أقفالها العصيّة، بمفتاح الأسئلة السّحريّ، قلت:
- وما هو الجمّار يا أبي!!
مسح على رأسي في لطف وقال:
- إن شاء الله غدا ستعرف ، فقط تمنّى على الله أن لا تسقط إحدى الننخلات على حقل الخضار الذي تعبت في تهيئته مدّة طويلة، وآمل أن أجني منه محصولا معتبرا هذا الموسم.
* * *
ظنتني في الصباح أول المستيقظين، لكن ما إن فركت عينيّ بأصابعي حتى سمعت طرقا شديدا على الباب الخشبي ، المصنوع من خشب النخيل وليس من خشب (البقنون) الصقيل المستوي واللمّاع الذي رأيت الأبواب تصنع منه في المدينة، عندما نزور عمتي في الأعياد والمناسبات.
كانت تلك هي عادة أبي في طرق الباب ، وعادة كثير من رجال القرية ، قالت أمّي:
- أسرع وافتح الباب .. فقد عاد أبوك..
اندفعت مسرعا لأفتح الباب له، وفي ذهني أسئلة عدّة تتدافع في قلق وحيرة ( متى استيقظ أبي ؟ وكيف خرج ولم أشعر به ؟ ترى هل وجد الجمّار ؟ وهل سقط كثير من النخل البارحة ؟ وهل كفت الرّيح عن الصفير ...؟ )
اتقيت – وأنا أشرع الباب – دفقة الضوء الذي انصبّ شلالا على وجهي ، ولم أستبن ملامح أبي جيّدا لوهلة من الزمن ، سمعته يقول والبشر ينغم نبرات صوته:
- هيّا بنا ...اليوم ستشبع من الجمّار..
واتجه إلى زاوية في البيت ، نلقي فيها بأدوات الفلاحة وأخذ فأسا ومنشارا خشبيّا، وعددا من الأزاميل ، وكيسا صغيرا فارغا دفعه إليّ لأحمله ، ثمّ خرج مندفعا كأنما تجذبه ريح البارحة إلى ساحة الأفراح والبهجة ، وأنا على أثره أقفز مثل غزال شموس..
تجاوزنا ثلاثة بساتين - كانت كلّها تحت رعاية أبي- قبل أن نصل إلى المكان المطلوب ...وإذ بي أراها ؛ نخلة عجوز ممددة على الأرض النديّة مثل عملاق مدهش خانته قدماه، فهوى إلى الأرض بلا حراك..
الجريد الأخضر يكلل جزءها الأعلى ، بينما انفرش على الأرض تحت جزئها السفليّ ..مدّ أبي يده إلى المنشار بعد أن وضع بقيّة الأدوات جانبا ، وجعل يقطع عنها الجريد من أصوله ، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى جرّدها من تاجها الأخضر كلّه ، فصارت عارية تماما مثل ملك فقد عرشه ووقع تحت رحمة أعدائه .
انذهلت لهذا المنظر العجيب الذي آل إليه حالها، واستبدّ بي الفضول فدرت من حولها بحثا عن الجمّار ؛ الذي لم أره في حياتي قط ، حياتي التي لم تتجاوز الثامنة بعد، لكنّها بدت لي كأنّها دهر ممتدّ بلا نهاية ، وحسبتني كنت في الدنيا من آماد طويلة ، فكيف لا أعرف هذا الذي يسمّى ( الجمّار).
لم أر شيئا ..إلى أن شدّ انتباهي لون سعف الجريد بقلب النخلة( كما يسمّي أهل الواحات وسط رأس النخلة )، وكان أبي يقطعه ويضعه جانبا بعناية ، فقلت في فضول:
- هذا هو الجمّار يا أبي..؟
فقهقه ملء شدقيه وأخذ الفأس ثم وضعها بين رجليه، ثمّ تفل في كفيه شيئا يسيرا ومسح بعضهما ببعض ، ليأخذ الفأس مجددا ثمّ ضرب به رأس النخلة ليشقه به، وهو يقول:
رويدك لا تستعجل ..! سوف ترى الجمّار بعد قليل ، أمّا هذا الذي وضعته جانبا فهو سعف أصفر ، نصنع منه القفاف والحصر والمظلات التي تقينا حرّ الشمس في الصيف !
وبدأ قلب النخلة ينشق شيئا فشيئا، وأبي في كلّ مرّة يجرّده من الليف و(الكرناف) وكلّ ما يحيط به من السطح حتى اللب ، إلى أن تبدّى اللب ظاهرا ، فاقتطع من أعلاه قطعة، رمى بها إليّ وقال:
- تذوّق ...
كان أبيض مثل زبدة الماعز على جوانبه خطوط بنيّة اللون وكان طريّا جدّا ، له نكهة مختلفة وطعم جديد على مذاقي، فأخذت أقضم من تلك القطعة في حذر بادئ الأمر..ثمّ لمّا استمرأتها، التهمتها التهاما.
وما كدت أنتهي حتى رأيت أبي يستخرج اللّب الصافي، الذي لا تشوبه شائبة .. كان ذلك هو " الجمّار" الحقيقيّ ..قطعة واحدة ناصعة البياض ملساء ، فاقتطع لي منها جزءا صغيرا وقال:
- خذ هذا هو " الجمّار " الذي حدتك عنه أمّا الأوّل فكان القشور وحسب ..
تذوّق الآن وقل لي ما رأيك..
لقد أسكرني مذاقه ورحت أعبّر عن نشوة هذا الاكتشاف الجديد في حياتي الصغيرة ( الكبيرة )، بقفزات فوق جذع النخلة الممدد في كبرياء ، وقلت بمرح:
رائع هذا الجمّار... رائع جدّا يا أبي..
ليت الريح تهبّ كلّ ليلة ..
فضحك أبي من أعماق قلبه وقال:
- إذا لن تذوق ( الجمّار ) بعدها أبدا..!