القطط .واللحمة .. وصناعة الكلام
حكاية:
"القطط .واللحمة .. وصناعة الكلام"
عبد الله القحطاني
تقول الحكاية – والعهدة على الراوي - :
حين وضعت ربة المنزل قطعة اللحم في المطبخ ، وبدأت بإعدادها للطبخ،هجم عليها قط ضخم شرس ، واختطفها بسرعة ، وانتحى بها جانباً من المنزل ، وبدأ بالتهامها .. فوجئت المرأة بحركة القط السريعة ،وتحركت خلفه على عجل لإنقاذ طعام الأسرة من مخالبه .. وحين وقع بصرها عليه ، رأته منكبّاً على وجبته الدسمة يمزقها بمخالبه وأنيابه الحادة .. إلاّ أنها فوجئت بأمر آخر ، هو أن القط المتوحش لم يكن وحده، بل كان معه حول الوجبة مجموعة من القطط ، مختلفة الأحجام ، وأكثرها من لون واحد ، وإن كان بعضها يحمل ألواناً مختلفة قليلاً عن لون الأكثريّة .. كانت القطط كلها منهمكة بتمزيق اللحمة وازدرادها بشهية..اقتربت المرأة من مأدبة القطط قليلاً ، فنظرت إليها مجموعة من القطط بشزر ،ونفشت شعرها حتى صار كأنه الإبر ، ورفعت ذيولها ، وكشرت عن أنيابها متحفزة للانقضاض ، محذرة المرأة من الاقتراب.بينما ظلت قطط أخرى منهمكة بتمزيق اللحم وازدراده بنهم .. خافت المرأة من المنظر الرهيب ، وأدركت أنها لن تستطيع فعل شيء وحدها ،فأسرعت إلى بهو المنزل ، حيث كان يجلس زوجها وأبناؤها ، وبعض أقاربهم من بني عمومة و خؤولة ، يتجاذبون أطراف الحديث ، و ينتظرون الطعام .. أخبرتهم بالخبر ،فهبّوا جميعاً لإنقاذ طعامهم من القطط اللصوص .. وحين اقترب بعضهم من مكان المأدبة ، تحفزت القطط جميعاً للانقضاض على كل من يقترب منها . فقد نفشت شعورها ، وكشرت عن أنيابها ، ورفعت ذيولها بأشكال منحنية ، وبدأ الشرر يتطاير من عيونها باتجاه القادمين المتطفلين على طعامها.. كان ربّ المنزل نحيف البنية ضعيف القلب والإرادة ، فدبّ الذعر في نفسه، وتراجع مبتعداً قليلاً ، والخوف الشديد يطغى على ملامح وجهه .
وحين رأى الآخرون من أفراد الأسرة و أقاربهم ، ما أصاب عميد الأسرة من ذعر وارتباك، تولّد لديهم ذعر إضافي سرى إليهم بالعدوى ، فعزز الذعر الذي أصابهم من رؤية القطط اللصوص .. فتراجعوا جميعاً ، وظلّوا ينظرون من بعيد إلى القطط وهي تلتهم طعامهم وهم جياع عاجزون مذعورون . و بدأ بعضهم بالتفكير .. لا بد من إنقاذ ما تبقى من قطعة اللحم – وهي ضخمة معدّة لطعام الأسرة وأقاربها -. أو في أقل تقدير، الحصول على قسم منها و ترك قسم آخر للقطط ..
قال أحدهم –وهم جميعاً في حالة قلق و ذهول و حيرة -:
ما رأيكم أن نحاور القطط بالعقل والمنطق ، وندعوها إلى التفاهم !؟
قال آخر ضاحكاً بمرارة :
تفاهم حول ماذا ؟ ومع من ؟ مع القطط ؟
قال آخر جادّاً :لابأس بالفكرة من حيث المبدأ .ولكن كيف نستطيع أن نخاطبها بلغتها ،وكيف نستطيع جعلها تفهم لغتنا ! ؟
قال آخر :
إذا اتفقنا على المبدأ ،فكرنا بالأسلوب المناسب لتبادل الأفكار .فإذا لم تكن الكلمات وحدها كافية ،استعنّا بالإشارات ،كما يتعامل البشر بلغة الصمّ والبكم ،بل كما يتفاهم البشر أصحاب اللغات المختلفة أحياناً..
قال آخر:
حسناً.. فلنجرّب، وليتقدّم إلى القطط أفصحنا لساناً ،وأقوانا حجّة ،ولتكن أنت يا "زيد".
قال زيد متلعثماً:
ولم التقدّم باتجاه القطط ؟ أهي صمّاء لا تسمع كلامي من هنا ؟
قال آخر :حسناً نادها من هنا .. وارفع صوتك كي تسمعك جيّدا .
تنحنح زيد ، واستجمع قوته ،وقال بصوت مرتعش أجش :
أيتها القطط النبيلة المحترمة ،أصغي إليّ جيّداً ، فإني أريد أن أعرض عليك صيغة مناسبة للتفاهم بيننا وبينك حول اللحمة ..
صمت قليلاً بانتظار جواب القطط . إلاّ أنها ظلت منهمكة بأكل اللحم ، ولم تجب بشيء.
قال أحدهم : لعلها لم تسمعك ، فارفع صوتك قليلاً .
صاح زيد بصوت مرتفع :
هيه.. أيتها القطط العظيمة .. يا رموز العدل والإحسان والفضيلة .. ألا تسمعين ندائي!؟ إني أخاطب فيك العقل والمنطق ، وأخاطب فيك روح العدالة والإنصاف ، وأخاطب فيك معاني الحق والخير ، وسائر القيم التي آمن بها أسلافك العظام ، منذ أيام جدّك الأكبر الذي ركب مع جدتك النبيلة الكبرى في سفينة نوح أيام الطوفان .. وإنني أدعوك باسمي وأسماء أقاربي هؤلاء جميعاً ،أن تقبلي باقتسام اللحمة بيننا وبينك بالعدل والإنصاف . خذي نصف ما تبقى من اللحمة واتركي لنا نصفها الباقي وسامحك الله بالقسم الذي أكلته حتى الآن ، وهو أكثر من نصف اللحمة كلها ..هنيئاً مريئاً لك ما أكلت ، وأمدّك الله بالقوة والعافية .
صمت قليلاً ،ونظر إليه بعض القطط نظرات شزراء عجلى .. وهرّ بعضها هريراً
خفيفاً ، وتابعت كلها مهمّتها في التهام اللحم .
قال أحدهم ، وقد خطرت له فكرة ذكيّة :
يا قوم .. يا قوم .. أظننا لم نحسن مخاطبة القطط . فقد كلمناها – كلمها زيد باسمنا – بلغة الجماعة . وربما أثارت هذه اللغة حيرتها وارتباكها ، فلم تدر أيها المخاطب ، ولابدّ أن بينها وجيهاً تأتمر بأمره ، وتخاطب من خلاله . فلو أننا عرفنا أيها الوجيه ، لخاطبناه بشخصه ، وبصفته مسؤولا عن مجموعته .
قال آخر :
هذا صحيح ، ولعلّ الوجيه بينها هو ذلك الضخم الذي يقف في الجهة المقابلة لنا ،ووجهه إلينا . فضخامة الجسم قد تكون أحد أسباب الوجاهة لدى القطط .
قال آخر:
بل ربما كان ذلك الأصفر ،الذي يقف في الجهة اليمنى فهو أجملها شكلا ..
قال آخر :
وما يدريكم ..! لعله القط الذي اختطف اللحمة من المطبخ ، فقد تكون جسارته في الوثب والاقتحام والاختطاف ، أهلته لدى قومه ، لمنصب السيادة بينهم .
قال آخر بلهجة جادّة حازمة :
يا قوم ..يا قوم .. قولوا كلاماً معقولاً ! فمتى كانت ضخامة الجسم سبباً وحدها في الوجاهة أو السيادة ؟ ومتى كان لون الجسم أو الشعر سبباً كافياً وحده للسيادة والوجاهة!؟ ومتى كانت القدرة على الخطف والسرقة والنهب سبباً كافياً للزعامة !؟ صحيح أن كل سبب من هذه الأسباب ، قد يكون عنصراً مساعداً في التحلي بمنصب الزعامة في بعض الأحيان ، لدى بعض الأمم والأقوام والقبائل ، من بني البشر ، ولدى بعض الأمم الأخرى من الوحش والطير والأنعام . إلآ أن هذا لا يعني بالضرورة ، أن يكون القط الوجيه ، هو أحد القطط التي ذكرتم أوصافها . ولا سيّما أننا لا نعلم بالضبط
كيف تختار القطط زعماءها ، وأصحاب الوجاهة والسيادة فيها .
قال آخر :
وما رأيك أنت ؟ أعني كيف نعرف الوجيه بينها لنخاطبه يا سيّد (عمرو )!؟
قال عمرو :
اقترح أن نخاطب الوجيه بينها دون أن نعرفه . فإذا سمع مخاطبته بصفته ،فسوف يتصدى للإجابة هو وحده حصراً .
قال آخر :
وما يدريك ؟
قال (عمرو ) :
وهل يجرؤ غيره على الإجابة ، حين يكون النداء باسم الزعيم . أو السيّد ،أو الوجيه ! ؟
قال آخر :
هذه فكرة صائبة. وعليك يا سيد عمرو تنفيذها ، لأنك صاحبها ، وأقدر من يجيد التعامل بها مع القطط
قال عمرو :
لابأس . . سأبذل جهدي . وأرجو أن أتمكن من مخاطبة عقل الوجيه ، أواسـتـثارة أريحيته وعطفه .
تنحنح عمرو ثم قال بصوت جهوريّ واضح واثـق :
أيها السيّد القط الزعيم المحترم .. إني أخاطبك ..
قاطعه أحدهم قائلا :
مهلا يا سيد عمرو ..لقد نسيت صفة "الملهم ".
قال عمرو :
صحيح ..لقد نسيت هذه ، فأرجو المعذرة ..
وبدأ عمرو مخاطبته للقط من جديد :
أيها السيد القط الزعيم المحترم الملهم . إني أخاطبك من موقعي المتواضع هذا ، وأنت في موقعك السامي النبيل ذاك .. أخاطبك خطاب العقل للعقل ،
والقلب للقلب ، والروح للروح .. إني أخاطبك أصالة عن نفسي ، ونيابة عن
أهلي وأقاربي هؤلاء الذين تراهم أمامك يتضورون جوعاً .. وإني لأرجوك
بصفتك سيّدا لقومك ، وبصفتك فرعاً كريماً من أصل كريم .. أرجوك أن ترأف بحال هؤلاء المساكين الجياع ، وأن تبقي لهم بقيّة من هذا الزاد الذي تكِبّ على التهامه أنت وبنو قومك النبلاء .. واختر أنت الكميّة التي تودّ إبقاءها لنا نحن المساكين . لن نشترط عليك شروطاً في الكميّة ، فاترك لنا ما تجود به نفسك ، الربع ، أو الخمس ، أوحتى العشر .. مما تبقى من وجبتك الدسمة الشهيّة . ولن ننسى لك هذا الفضل ما حيينا أيها السيد القط النبيل .
صمت عمرو ، وظل ينظر إلى القطط ويراقب حركاتها ، ليعرف تأثير كلماته فيها ..
وكان أحد القطط قد شارف على الشبع ، وصار يأكل قليلاً ويتلفت حواليه ،
ويلعق شفتيه ، فظن عمرو أن هذا هو الزعيم في قومه ، وأن كلماته الحارّة
قد استثارت أريحيته وعطفه . إلاّ أنه اكتشف أن تلفت القط حوله ليس ناجماً عن تأثره بالخطبة العاطفيّة التي ألقاها على مسامعه ، بل لأن بطنه
قد امتلأ بالطعام ، إلاّ أن عينه ما تزال جائعة ، وإغراء اللحم ما يزال قويا في نفسه ..
نظر عمرو فيمن حوله وقال لأحدهم : جاء دورك يا"مازن "، فقد استنفدت أنا كلماتي العاطفيّة ، ولم تؤثر في مشاعر السيد القط ، فاستعمل معه أسلوبك الذكي في السياسة ..
تنحنح مازن ، وقال مخاطباً القط ، الذي يفترض أنه السيّد ، دون أن يعرف أيّ القطط هو :
عزيزي القط النبيل .. نحن أبناء وطن واحد ، نعيش على أرض واحدة ،
ونأكل جميعاً من خيرات هذه البلاد .. صحيح أننا من فصيلتين مختلفتين - فصيلة البشر وفصيلة القطط - إلا أن حياتنا الطويلة المشتركة على هذه الأرض الطيبة المعطاء ، وفي أرجاء هذا الوطن العزيز.. قد عززت بيننا أواصر الودّ ، ووثـقت عرا الصداقة ، ومنحتنا إحساساً مشتركاً بالانتماء إلى هذا التراب الغالي ..
إننا نؤمن – يا سيدي القط – كما تؤمنون ، بالحياة الجماعيّة والمشاركة في الرزق .. إلا أن التسميات قد تختلف من فصيلة إلى أخرى . فنحن نسمي الحياة الجماعيّة المشتركة " اشتراكيّة "بينما أنتم تسمونها – فيما نحسب-تسمية أخرى مناسبة للغتكم النبيلة التي تتكلمونها ، ولن تكون بالضرورة هي التسمية ذاتها ..
والدليل يا سيّدي القط ، على إيماننا جميعاً بمبدأ "الاشتراكيّة " ، بارز للعيان ! فها أنتم أولاء تتحلقون معاًًًًًًًً على وجبة واحدة ، كما ننوي نحن
التحلق حول وجبة واحدة ، من بقيّة الطعام التي نأمل أن تتركوها لنا ..
وإذا كانت الوطنيّة قد جمعتنا بحكم الانتماء ، والاشتراكيّة قد جمعتنا بحكم المبدأ ، فلم يبق إلاّ أن نقرّ لكم بأنكم أحرار فيما تأكلون من زادكم الشهي هذا .. وتقروا لنا بأننا أحرار في أن نصنع وجبة طعامنا التي ستبقونها لنا من اللحمة ، بالكيفيّة التي تلائم أبداننا الضعيفة، التي لاتقوى على أكل اللحم نيئاً كأبدانكم القويّة الرائعة ..
والذي نعلمه – ياسيدي القط – أنكم تؤمنون بهذا النوع من الحريّة ، حريّة الأكل بما يلائم البدن ..
وبناء على ما تقدّم ، فإني أرجو سيادتكم بأن نضع أيدينا في أيديكم الكريمة للمحافظة على القيم المشتركة بيننا وبينكم ، والتي ستقوى وتتعزز بمبادرتكم النبيلة التي نرجوها منكم ، وهي أن تتفضلوا وتبقوا لنا نحن الجياع المساكين شيئاً ، ولو يسيراً ، من الطعام ، لنحفظ به أجسادنا التي هدّها الجوع .. ولكم –ياسيّدي القط – شكرنا وعرفاننا
بالجميل..
أنهى مازن كلمته السياسيّة ، وأمعن النظر في القطط ، فرأى أكثرها قد شبع وبدأ يتلفت حوله ويلعق شفتيه ، بينما الأعين الجائعة ما تزال معلقة في قطعة اللحم ، تعود
إليها بين فينة وأخرى ، لتنشب المخالب والأنياب فيها من جديد ..
حين رأى أهل البيت وأقاربهم ، أن الحديث السياسيّ لم يقنع القطط في التخلي عن الطعام ، ولم يستثر أريحيتها ، ولم يحفز ملكاتها الذهنيّة لحسابات الحاضر والمستقبل ، والعيش المشترك مع أبناء الوطن الواحد ..
حينذاك ، التفت أحدهم إلى جاره ، وقال له :
لم يبق في الميدان إلآ أنت يا"مسعف" .. فلم ’تجدِ مع القطط ، أحاديث الفلسفة والسياسة،ولم تستثر مشاعرها أنواع العواطف التي صبّت في آذانها .. لم يبق الآن إلآ الشعر .. فإن أسعفتنا بالحصول على شيء من اللحمة ، فأنت اسم على مسمّى .. وإلا فكلنا في العجز سواء ..
تنحنح مسعف ، وقال مخاطباً القط السيّد المفترض :
سيّدي القط الرائع الشهم ، يا درّة الدهور ، ويا نابغة العصور .. أرجوك ، بكل ما أوتيتَ من مشاعـر نبيلة ، وأخلاق سامية جليلة ، أن تصغي إلى هذه
الأبيات التي تشرفتْ بذكر شخصك العظيم ومحتدك الكريم . ومنتهى أملي أن تنال رضاك، وتحظى بإعجابك .. وهاهي ذي تنطلق من قلبي الكليم ، إلى صدرك الرحيم :
ورثت عن الكرام الصيد فضلاً وإحساناً وإقداماً ونبـــــلاً
فلم أرَ مثـل هذا الفرع فرعاً ولم أرَ مثـل ذاك الأصل أصلا
وهنا ’سمع طرق على الباب الخارجي للبيت ، فتوقف الشاعر عن إلقاء قصيدته ، حتى يتم استجلاء الأمر ومعرفة الطارق ..
وحين فتح الباب دخل ضيف ، هو صديق للأسرة وثيق الصلة بها ،إلآ أنه من أسرة أخرى ومدينة أخرى ، وصاحب حنكة وتجربة ..
سلم الضيف على الحاضرين ، وهو ينظر في وجوههم وأحوالهم مستغرباً ماهم فيه . ثم نظر إلى مجموعة القطط وهي تلتهم اللحم ، فأصابته الحيرة مما رأى .. ولما استفسر عن الأمرو’شرحَ له الموضوع بتفصيلاته ، ضحك بمرارة ثم هدأ وتماسك ، ونظر إلى الجميع نظرات ملأى بالاستغراب والاستخفاف .. وظل صامتاً .
قال له صاحب البيت :
ويلك ماهذا الاستخفاف بالحاضرين ! ؟
قال الرجل :
بل ويلكم أنتم ، لقد استخففتم بأنفسكم ، حتى استخفت بكم القطط . وربما استخفت بكم الفئران ، لو أتيح لها من طعامكم أو متاعكم ما أتيح للقطط.
قال صاحب البيت :
فهل لديك أسلوب آخر لمعالجة المشكلة ! ؟
قال الضيف أجل ..أدلكم عليه ، لكني لا أشارك في تنفيذه .
قال صاحب البيت :
ولمَ ؟؟
قال الضيف :
لأني غريب ، من مدينة أخرى ، ومن أسرة أخرى ، ولا أحبّ التدخل المباشر ، بينكم وبين قطط مدينتكم ، فهذه مسألة داخليّة تسوونها بينكم
وبين مواطنيكم من فصيلة القطط . والأعراف الديبلوماسيّة تحظر التدخل في الشؤون الداخليّة للآخرين .
قال صاحب البيت :
وهل تعتبر القطط مخلوقات ذات شأن ، وتجعلنا معها في دائرة مواطنة واحدة ! ؟
قال الضيف :
أنتم فعلتم هذا لا أنا . ومن واجبي أن أحترم نظرتكم للأمور .
قال صاحب البيت:
فما أسلوبك المقترح لحلّ المشكلة !؟
قال الضيف وهل لديكم استعداد لتنفيذ ما أقترح عليكم ؟
قال صاحب البيت :أجل .
قال الضيف : حسناً .. تعال يا عباس .. قف إلى جانبي .
وقف عباس إلى جانب الضيف ، منتظراً أوامره .
قال الضيف :
أنت أضخم الحاضرين جثة وأعلاهم صوتاً فيما أعلم . فتقدم خطوة إلى الأمام باتجاه القطط ، واصرخ بصوت عالٍ ، وارفع يديك كمن يهدد بالضرب .
فعل عباس ماأمره به الضيف ، فتحفزت القطط ، ورفعت أذنابها بأشكال مقوسة ، ونفشت شعورها ، وكشرت عن أنيابها ، وبدأت تصد ر أصواتاً
عالية ..
قال الضيف ، وهو ينظر إلى القطط :
هل عرفت زعيمها ياعباس ؟
قال عباس : لا
قال الضيف : إنه ذاك المخطط بالأحمر والأبيض ،الذي يقف في الجهة اليسرى .
قال عباس : كيف عرفته ؟
قال الضيف : إنه أكثرها عنفاً وشراسة وتحفزاً ، ونظراً إلى القطط الأخرى
حتى كأنه يصدر إليها الأوامر بصوته وحركاته وعينيه
قالت ربة البيت ، وهي تقف في زاوية وتراقب المشهد :
إنه هو الذي خطف قطعة اللحم
قال الضيف : حسناً .. وهذه أهم مؤهلات الزعامة لدى كثير من الوحوش ،
ومايندرج في فصيلتها من المخلوقات ..
وتابع الضيف :
اصرخ بصوت عالٍ ياعباس ، وارفع يدك مرّة أخرى كمن يهدد بالضرب وقل بلهجة قويّة :
أعطينا ما تبقى من اللحم أيتها القطط المجرمة ، فهذا حقّ لنا ، اغتصبته منا ..
فعل عباس ما طلبه منه الضيف ، فصرخت القطط صراخاً متوالياً ، وبدرجات مختلفة من الشدّة ، وسكتت بعد برهة ، إلآ أن القط الذي خطف اللحمة ، ظل ّ يصرخ بصوت عالٍ ، ثم سكت .
قال الضيف بهدوء :
هذا هو حلّ المشكلة يا سادتي الكرام. لقد حلها لكم السيّد القط ، غريمكم الأول ، خاطف اللحمة .
قال صاحب البيت :
كيف فهمت منه هذا ؟
قال الضيف : لقد قالها بلسان القط الفصيح ، بلا مواربة ، ولا لبس ، ولا غموض .. صحيح أنه قالها بلسان مخلوق أعجم ، إلآ أنه لسان فصيح معبّر عن حقيقة واضحة دامغة. فالمعاني العامّة مشتركة بين المخلوقات مهما اختلفت لغاتها وطرائق تعبيرها . لقد قال لكم يا سادة – واعذروني فناقل الكفر ليس بكافر - :
أيها الحمقى الأغبياء الجبناء .. كيف تحلمون أن نتخلى لكم طوعاً عن صيدنا الذي حزناه عنوة بمخالبنا وأنيابنا ..!؟
وهل تحسبون الثرثرة الفارغة ، التي تسمونها فلسفة ،أوسياسة ،أوأدباً..
كفيلة بدفعنا إلى ترك غنيمة غنمناها منكم ، لنظل نحن وإياكم شركاء في الوطنيّة ، أوالاشتراكيّة ، أومبدأحريّة الاختيار ، أو غير ذلك من معان فارغة تخدعون بها أنفسكم لتغطوا على جزعكم وجبنكم ! ؟
قال صاحب البيت يسأل الضيف :
وهل تفهم لغة القطط !؟
قال الضيف : لا .. ولكني أفهم لغة المخالب والأنياب ، فقد تعاملت معها طويلا .
قال صاحب البيت :
فما رأيك لو أنذرناها بمصير رهيب ، قد يدمرنا وإياها ، إذا لم تحسن التفاهم معنا !؟
تضاحك الضيف ، وقال :
حسناً.. جرّب ياعباس ، وحذرها من هذا المصير الرهيب المشترك .
رفع عباس يده ملوحاً ، وصوته صارخاً، وهو يقول :
أيتها القطط التي لانزال نظنك مخلوقات عاقلة تحسب عواقب الأمور، إن أسلوبك هذا في السطو على رزقنا ، سيولد أجواء مريرة من الفرقة بيننا وبينك ، ونحن نعيش في وطن واحد . ولسوف يغري بنا الأعداء ، فيجتاحون بلادنا ، ويدمرونها فوق رؤوسنا ، ونهلك نحن وأنت ، فلا يبقى منا رجل أو امرأة على قيد الحياة ، ولا يبقى منك قط أو قطة على وجه الأرض ..
كشّرت القطط عن أنيابها ، وحركت أذيالها دون أن تقوّسها تحفزاً .. وصرخت صرخات متوالية ، ثم سكتت .
ضحك الضيف وقال :
وهاهي ذي الإجابة الأخيرة ، جاء ت حاسمة لكل جدال .. لقد قالت لكم القطط بكل صراحة ووضوح :
ما غنمناه بمخالبنا وأنيابنا ، لن نتخلى عنه لأحد ، مهما كان فصيحاً أو بليغاً
أوبارعاً في السياسة ، أو متعمقا في الفلسفة . الشيء الوحيد الذي يجبرنا
على التخلي عن غنيمتنا ، هو أنياب أقوى من أنيابنا ، ومخالب أفتك من مخالبنا .. أما المصير الرهيب الذي تهددوننا به، فلا نخشاه ! فإذا وقع علينا وعليكم ، متم خماصاً ومتنا بطاناً.. وحسبنا أن نموت ببطون ملأى ، وأن تموتوا ببطون خاوية ..
وأما إذا لم يقع هذا المصير الرهيب ، وظلت الأمور على ما هي عليه ، بقينا سادة عليكم بمخالبنا وأنيابنا ، نأكل طعامكم متى نشاء وكيف نشاء .. وبقيتم عبيداً لنا تستجدون منا فضلات الطعام الذي ننتزعه منكم بسبب غفلتكم وجبنكم وحماقتكم .. إنها سنة الحياة أيها السادة الفصحاء الأغبياء .. فمتى استردت الثرثرة والنواح ما انتزع بجرأة القلب وقوة السلاح !؟ وغادر الضيف المنزل .
وماتزال الحكاية مستمرة ..!