عَبَرَاتٌ بِلَحْنِ الدَّم

عَبَرَاتٌ بِلَحْنِ الدَّم

(حتى لو كانت دماؤنا مِدادَنا.. فلن نَفِي شهداءَ مجزرة تدمر المغدورين حَقَّهم..

ولن نُعَوِّضَ عن ساعة حُزنٍ عاشتها ثكلى من ثكالاهم)

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

العَبْرَةُ السادسة

.. .. ..

 ولماذا انتظرتَ رُبْعَ قرنٍ يا أستاذ، لتتقدّم بدعواكَ هذه ؟!..

 هذه قضيةٌ أخرى يا سيدي.. فأنا لم أنتظر، لكنني لم أتمكّن من ذلك إلا في هذا اليوم.. فنحن نعيش في زنزانةٍ يا سيدي، زنزانةٍ اسمها : سورية.. لا يسمَحُ نواطيرُها لأهلها بالتنفِّس إلا وِفْقَ معايير قوانين الطوارئ.. وقوانين الطوارئ هناك تمنعنا من التنفّس إلا وِفْقَ مِزاجِ النواطير !..

 مع أنّ أمركَ غريبٌ يا أستاذ، فسأتيح لكَ خمس دقائق لتقولَ ما عندك.

 لا تكفي.. لا تكفي خمس دقائق يا سيدي.. ربما يستغرق شرحي خمسة أشهرٍ أو خمس سنواتٍ.. لا أعلم بالضبط.. فالأمر يرتبط بمذبحة.. مذبحةٍ يا سيدي.. ارتكبها (حُرّاسُ التنفّس) في بلادنا منذ خمسةٍ وعشرين عاماً!..

 مذبحة ؟!.. ومنذ خمسةٍ وعشرين عاماً ؟!.. ولماذا لم ترفع دعواكَ هذه إلى محكمتكم الوطنية طوال هذه المدة؟!..

 وهذه أيضاً قضيةٌ ثالثة يا سيدي.. أرجوك، لا أريد أن أشتّتَ ذهني عن المذبحة الكبرى الفظيعة، فقد قَدِمتُ من بلادي البعيدة، لأضعَ هذه الجريمةَ الرهيبةَ بحق الإنسانية، بين يدي عنايتكم الكريمة.. وكل ما أستطيع أن ألفتَ إليه في هذه اللحظة، هو أنّ المحاكمَ في بلادنا، فضلاً عن القضاة والمحامين والضحايا والشهود.. كل أولئكَ يخضعون لقوانين التنفّس الوطنية في (مملكة ممنوع التنفّس)، التي هي بلادنا يا سيدي !..

يبتسم القاضي ابتسامةَ مَن يضبط نفسَه عن الابتسام، ثم يتوجَّه بالحديث إلى (كاتب المحضَر) الذي يجلس عن شماله :

 قرَّرنا، نحنُ قاضي قُضاةِ (محكمةِ لاهاي)، تأجيلَ جَلْسةِ الاستماع للمدَّعي السوريِّ الجنسية (نادر الشرعي)، إلى يوم الثلاثاء القادم بتاريخ 27/6/2005م.

عندما سمع تاريخَ الجلسة.. انتفض (نادر) من مكانه، ليقولَ ودمعة تنسلّ من مآقه :

 نعم.. نعم، صحيح يا سيدي، في مثل هذا التاريخ بالضبط قبل رُبْعِ قَرنٍ.. وقعتْ المذبحة، ما تزال مَشاهِدُها أمامي.. ما تزال مشاهد أشلائهم تُعَشِّش في قَعْرِ عَيني.. ما تزال صرخاتهم تُقيمُ ما بين مطرقة أذني وسِندانها.. ما تزال دفقات دمائهم تتدفّق في روحي!..

ثم استدار (نادر)، ووضع -وهو في طريق خروجه من القاعة- راحَتَيْه على أذنيه، قابضاً على رأسه، ومتابعاً كلماتِهِ المتعثّرة :

 وما تزال أرواحهم تَخفقُ في صدري.. آهِ يا سيدي من ذلك اليوم.. آهِ من ذلك التاريخ !..

العَبْرَةُ الخامسة

في طريقه إلى الفندق على شاطئ (بحر الشمال)، رافق رجلٌ مهذَّبٌ الأستاذَ (نادر)، وجلس الرجلان على مقعدَيْن مُتجاورَيْن في الحافلة التي تُقِلُّهما من مبنى المحكمة.. بادر الرجلُ المهذَّب بالحديث :

 اسمي (فرانسوا)، فرنسي من أصلٍ لبناني، أرحّب بك باسم (منظمة العفو الدولية).

 أهلاً بكَ سيد (فرانسوا)، تَشَرَّفنا.

 فرانسوا : هل أسألكَ سؤالاً ؟!..

 نادر : تفضّل.

 لقد اطلعتُ على الملف الذي قدَّمتَه حضرتكَ إلى منظمتنا، وأرغب في أن تشرحَ لي قضيةَ الطالب (زاهر عبد المنعم)، أحد رفاقكَ في (سجن تدمر)، الذي أُعدِمَ منذ عشرين سنة.

عدّل (نادر) جلستَه، وبدت مُقلتاه كياقوتَتَيْن حمراوَيْن، يَنِزُّ الماء حولهما، فينسكبُ على سَطْحَيْهما، ويَسيلُ بطيئاً باتجاه الوجنتَيْن.. ثم أجاب :

 (زاهر عبد المنعم) رحمه الله، هو ابن عمّتي، ورفيق طفولتي.. كان سيتقدّم إلى امتحان التخرّج في كلية (الحقوق)، لولا أنهم زَجُّوه في السجن الصحراويّ قبل ثلاثة أشهرٍ فحسب.. من موعد امتحاناته الأخيرة، وذلك بتهمة تمزيق صورة رئيس الجمهورية، وكتابة الشعارات المعادية للنظام الحاكم على جدران مبنى الجامعة.. وحين التقيتُهُ في المعتَقَل، حكى لي كيف كان يحلم بإسعاد والدته، التي ربَّته وتحمّلت من أجله المشقّات الكبيرة، من الجوع والبرد والسهر والقلق والحِرمان، فهو وحيدُها يتيمُ الأب، وكم كانت عمّتي المسكينة تأمل، في أن تجد وحيدَها في يومٍ من الأيام شاباً قوياً محامياً عظيماً، لولا أن اختطفوه من بين يديها في ليلةٍ ظلماء، قبل تحقيق حُلُمها بثلاثة أشهر !..

لقد ذكر لي (زاهر) ذات ليلةٍ في أحد مهاجع (سجن تدمر)، بأنّ كلمات أمّه الحنون، ما تزال تقرع مَسامِعِه :

 سأزوّجكَ يا ابني بنتَ الحلال الجميلة التي تليق بك، وها أنت ذا يا ولدي، ستصبح محامياً عظيماً.. سأزوِّجكَ (ليلى) الرائعة : بنت ذكية، مؤدّبة مهذّبة، جميلة، بنتُ أناسٍ محترمين، فأمّها موافقة وراضية، وكذلكَ (ليلى) الغالية.. فكم أشتاق لرؤية أحفادي يلعبون حولي يا ولدي الحبيب، ويَمْلَؤون علينا حياتَنا وبيتَنا.. لقد هانت يا بني.. هانت.. كلها بضعة أشهر وتتخرّج، لأفرح بك !..

أطرقَ (نادر) بُرْهَةً، ثم تابع حديثه :

 وبعد سبعة أشهرٍ من التعذيب والإذلال المتواصل في (سجن تدمر)، نوديَ ذات صباحٍ على عشرين شخصاً بأسمائهم، للتجمّع في باحة السجن، وكان ابنُ عمّتي (زاهر عبد المنعم) من بينهم، لكنه من شدّة ما كان يعاني من التعذيب والآلام، تأخّر بعضَ الوقتِ حتى استطاع الوصول إلى الباحة.. ليجدَ أعوادَ المشانق العشرين، تتدلّى منها أجساد رجالٍ أطهارٍ من المسجونين.. فتقدّم إليه أحدُ الجنود الواقفين، وسأله :

 ماذا تفعل هنا ؟!..

 أنتم الذين ناديتم علي !..

 ما اسمك ؟!..

 زاهر عبد المنعم !..

نظر الجنديّ إلى جدول الأسماء الذي بين يديه، ثم توجّه إلى الضابط الذي كان يقف قريباً منه، فتبادل معه حديثاً قصيراً، ثم عاد إلى (زاهر) مبتسماً :

 ليس لدينا أعواد مشانق جاهزة الآن !.. لكن لا بأس، اقترِب.. اقترِب..

ثم استلّ الجلاد من جيبه سكّيناً حادة، وأمسك بكتفي زاهرٍ المنهَك، دافعاً إياه بقوّةٍ إلى الخلف، فوقع أرضاً!.. صرخ (زاهر) من الألم، فَدَاس الجلاّد ببسطاره على رأسه، شادّاً ذقنَه إلى الخلف، وقام بِحَزّ عنقه بالسكّين على مقربةٍ من إحدى بالوعات الباحة، وسط ذهول (زاهر)، الذي حشرج متمتماً بكلماتٍ متقطّعةٍ مع دفقات الدم المتدفق من أوداجه : الله ..أك..بر.. لا إ..له إ..لا الله!..

أطرق الأستاذ (نادر) وهو يكفكف دمعةً تسرّبت من عينه، بينما مدّ السيد (فرانسوا) يَدَه لِيُرَبِّتَ على كتفه قائلاً :

 لابأس.. لابأس عليك يا أستاذ.

رفع (نادر) رأسَه، ليتابع :

 لقد كان إعدام ابن عمّتي فاجعةً لنا، لكنّ إعدامه ذبحاً بذلك الشكل، كان فاجعةً أشدّ.. أما الفاجعة الكبرى لنا، فقد وقعت بعد ساعاتٍ قليلة، حين نقل إلينا صديقُنا السجين (عزام)، أنه عندما استُدعِيَ إلى التحقيق في صباح اليوم التالي لذبحِ ابن عمّتي (زاهر عبد المنعم).. دخل أحد الجنود إلى غرفة التحقيق مُسرعاً مُنتَشياً، يدفع أمامه شاباً مكبّل اليدين، متوجِّهاً إلى الضابط المحقِّق بالقول :

 سيدي : هذا هو المجرم الهارب : (زاهر المحمود)، الذي مزَّق صورةَ السيد الرئيس، وكتب الشعارات المعادية على جدران الجامعة.. وقد اعترف منذ قليلٍ بجرائمه، مباشرةً بعد اعتقاله فجرَ هذا اليوم !..

العَبْرَةُ الرابعة

لدى دخوله صالة الفندق، تسلّم الأستاذ (نادر) مغلَّفاً من موظفة الاستقبال، مرسَلاً إليه من قِبَلِ السفارة السورية في هولندة.. فَضَّ المغلَّفَ بعد أن دخل غرفتَه الخاصة، ليقرأ رسالةً يحاول فيها السفير أن يثنيه عن عزمه لرفعِ دعوى، على نظام الحكم في بلده لدى (محكمة العدل الدولية)، وأنه بذلك يخون وطنه في ظرفٍ عصيبٍ تمرّ به البلاد، وأنه عليه أن يعودَ إلى سورية للمشاركة في الصمود والممانعة ضد القوى العالمية، التي تريد النيل من كرامة الشعب والوطن.. وكذلك يحذِّره السفير من أنّ المضيَّ قُدُماً بشكواه لدى المحكمة في (لاهاي)، سيُعتَبَرُ خيانةً عُظمى، وأنّ السلطات في دمشق، ستقوم عندئذٍ بكل الإجراءات اللازمة ضده، إن لم يكفّ عما هو عازم عليه، ويعود إلى سورية فوراً !.. وفي آخر الرسالة، يؤكّد السفير لنادر، على إرسال إجابته إلى السفارة بواسطة الفاكس، وبخطٍ واضح !..

بعد ساعةٍ واحدةٍ فقط، قرأ السفير إجابة الأستاذ (نادر)، الواصلة لتوّها بالفاكس :

 وصلني تهديدكم، ولم أتوقع أصلاً منكم أن تتصرّفوا بغير هذا التصرّف الأرعن، واعلم أيها السفير، بأنّني أتوجّه إليكم بهذا الخطاب، ولا يهمّني -حين تقرؤونه- هل ستكون في فم كلٍ منكم تفاحة أو ثمرة موزٍ أو حبّة كستناء، أو حتى لقمة كافيارٍ أو سمكة قريدس.. ولا يهمّني إن كان أحدكم -وهو يطالع خطابي هذا- جالساً على أريكته الحريريّة، يلفّ ساقَه اليسرى على اليمنى أم يلفّ ساقَه اليمنى على اليسرى.. ولا إن كان مُستَرخياً على كرسيّه الهزّاز، يستمع إلى شريطٍ رومانسيٍ مسجَّل.. أو إن كان يحلُمُ أحلامَ اليقظة وهو يقود سيارته (الأوتوماتيك) الفارهة.. أو إن كان منشغلاً بإحصاء الأموال التي نهبها من قوتنا وقوت شعبنا.. كل ذلك لا يهمّني!.. الذي يهمّني وحسب، في هذه الأيام الحاسمة والظروف الصعبة، هو أن تعلموا عِلْمَ اليقين، بأنّ أكاذيبكم الخاصة بالصمود والممانعة، لم تَعُدْ تنطلي إلا على أمثالكم، أو على المغفَّلين من أشباهكم، وأنه لو استعدنا حقوقنا عبر قضاءٍ نزيهٍ عادلٍ في بلادنا.. لما اضطررنا للتوجّه إلى المحاكم الدولية.. وقبل كل ذلك، فلتعلموا يا سعادة السفير ومَن وراءه، بأننا لن نسكتَ عن حقٍ من حقوقنا الكثيرة التي حرمتمونا منها، ولا عن دماءِ شعبنا التي سفكتموها بغير حقٍ طوال أربعين عاماً، وأنّ الحق لا يزول بالتقادم.. وأنه لو كان فيكم ذرة من شرفٍ أو ضمير.. لما سفكتم دماء عشرات الآلاف من أشراف قومنا بدمٍ بارد، ثم زعمتم أنكم أهل الصمود والتصدي.. وإنني أدعوكَ يا سعادة السفير لأن تؤوب إلى الحق، وتنضمَّ إلى شعبك، لتُسهم في جهود الانعتاق من ظلم نظامك الحاكم، وهذا آخر الكلام بيننا.. فإن لم يَرُق لك ذلك، فحاول أن تَشحَنَ هولندة إلى دمشق، أو أن تَجُرَّ كوكبَ الأرضِ إلى سِجن تدمر، أو أن تُقنِعَ الحرسَ الجمهوريَّ باحتلال المجرّة السادسة، أو أن تقومَ أجهزةُ مخابراتكم بالاشتراكِ مع مؤسّسة الإسكان العسكرية.. بِضَرْبِ أسوارٍ حديديةٍ حول المحيط الأطلسي.. فذلك كله، أهون عليكم من إقناعي بالعدول عمّا عزمتُ عليه !..

العَبْرَةُ الثالثة

جلس الأستاذ (نادر) عند شاطئ (بحر الشمال) متأمِّلاً، وقد امتدّت من خَلْفه المروجُ الخضراء الجميلة، وانبسطَ من أمامه البحرُ الفُضيّ، الذي بدأ يبتلعُ قرصَ الشمسِ الضخم عند خط الأفُق، عاكساً أشعّتَها، بألوانٍ خلاّبةٍ يختلط فيها الأحمر الأرجوانيّ بالأصفر المتدرّج.. فتبدو سطوح الأمواج الرصينة، كأنها سمكة (شِلْفٍ) ملوَّنةٍ مترامية الأطراف، منشغلةٍ بنقل تلك اللوحة الجميلة المتعرّجة بكل أمانة، إلى الشواطئ الحالِمَة الغافية بين ذِراعَيْ قُرصِ الشمس الذهبيّ، الآخذِ بالانغراز التدريجيّ في أغوار البحر الهادئ، ليغفوَ ذلك القرصُ الرائع باطمئنانٍ تامٍ أكثر من عشرِ ساعاتٍ داخلَ الصدر البحريّ الواسع الحنون، قبل أن يبدأ بالظهور مرةً جديدةً عند موعد شروق النهار التالي!..

 أستاذ نادر.. أستاذ نادر.. (صوتٌ ينادي من الخلف)!..

استدار (نادر)، فإذا السيد (فرانسوا) يقترب منه، صافحه قائلاً :

 سألتُ عنكَ في الفندق، فقالوا لي : إنه، كعادته في مثل هذا الوقت، يجلس عند الشاطئ، فهل أنتَ عند الشاطئ يا صديقي.. (قالها مبتسماً)؟!..

 لا يا صاحبي، أنا حيث يغيب المرء عن عالَمِه، أمام هذه اللوحة البحرية المذهلة التي أمامي!..

 إذن عندما تعود إلى عالَمِنا، أرجو أن تخبرَني، لأنني أرغب بالاستفسار منكَ عن مزيدٍ مما تحمله من ذكريات (سجن تدمر)!..

 سامحكَ الله يا (فرانسوا).. فقد انتزعتَني إلى عالَمِنا الحقيقيّ.. فتفضَّل، اسأل كما يحلو لك، وهل أنا قادمٌ من بلادي البعيدة إلا لهذا؟!..

جلس (فرانسوا) على كرسيٍّ مُقابلٍ لكرسيِّ الأستاذ (نادر)، ثم قال :

 في الواقع، أريد الاستماعَ إلى المزيد من قصص ذلك السجن الصحراويّ، وبالتحديد عن الأمراض التي سمعنا أنها كانت منتشرةً هناك بين السجناء!..

أطرق الأستاذ (نادر) كعادته، وعاد إلى مُقلتَيْه الشكلُ الياقوتيّ الدامع.. ثم بدأ بالحديث :

 والله يا عزيزي كانت أمراض عديدة منتشرةً هناك : الجدري والتيفوئيد والكوليرا والجَرَب والتهابات الكبد المختلفة.. وغير ذلك.. على أنّ أشدّها حَفْراً في ذاكرتي كان (مرض السِّلّ)، الذي فتكَ بأقرب أحبابي من نزلاء السجن!..

 .. .. ..!..

 كان (مصعب) فتىً لا يتجاوز عمره الستة عشر ربيعاً، اعتُقِل مع جميع أفراد أسرته أثناء مداهماتٍ عشوائية.. كنتُ أراجع معه حِفْظَ الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم.. تعلّقتُ به جداً، وتعلَّقَ بي أكثر، خاصةً بعد أن سِيقَ شقيقاه الأكبر والأصغر، ثم والده، إلى المشنقة أمام ناظريه، وهو يراقب سَوْقَهم إلى الإعدام من خُرمِ باب المهجع رقم خمسة، الذي كنا نَزيلَيْه معاً.. فقبل شهرٍ من إعدام الأب (أبي أكرم).. سمعناهم ينادون على وَلَديْهِ: (أحمد/ 14 سنة) و(أكرم/ 26 سنة).. للإعدام.. تقدَّم وقتها (أبو أكرم) متثاقلاً باتجاه وَلَدَيْه الحبيبَيْن، اللذَيْن كانا معه في المهجع رقم ستة.. ضمَّهما إلى صدره، ثم شدّ على يديهما معاً، وقال لهما مُوَدِّعاً:

 صَبْراً يا أحمد.. صَبْراً يا أكرم.. كونا رجلَيْن كما ربّيتكما.. كونا مؤمنَيْن كما أنشأتكما.. صَبْراً فإنّ موعدَكما الجنة بإذن الله.. اعتَنِ بأخيكَ أحمد يا أكرم.. لا إله إلا الله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون!..

 .. .. ..!..

 المهم، كان الفتى (مصعب) يجد فِيَّ سلوى عظيمةً له، خاصةً عندما أصيب بمرض السلّ، فكان يختلج جسمه كله من آلام صَدْره وشدّة سُعَاله وارتفاع درجة حرارته، ولا يهدأ إلا عندما أضعُ راحةَ يدي على صَدْره، وأقرأ بضعَ آياتٍ من القرآن الكريم، فيما أمسحُ بيدي الثانية على جبينه ورأسه.. فيتهادى.. ويهدأ، ثم يستسلم للنوم!..

 .. .. ..!..

 ذات ليلةٍ عزمتُ على أن أُهدي مصعباً هديةً تُخَفِّف عنه.. فلم أجد في جعبتي إلا باقةً من أبيات الشِّعر، كانت قد تفتَّقت عنها قريحة أحد الأحباب الأفذاذ في المهجع المجاور، فحفظتها.. ولشدة تأثري بحالته الصحية والنفسية، وحينما استيقظَ فجرَ ذلك اليوم.. قلتُ له :

 هذه هديةٌ لكَ مني يا مصعب، فما رأيك بها؟!.. ثم تَلَوْتُ عليه الأبيات مع بعض التصرّف، لتناسب خطابي له شخصياً :

سيُشرِقُ وَجْهُكَ خَلْفَ الظَّلام          وصَدْرُكَ يَنْزِفُ خَلْفَ الحديدْ

ومَاكَادَ   يثنيكَ   حِقْدُ  اللِّئام          فَيَا  مُصْعَبُ التَّدْمُرِيُّ الشهيدْ

عَلَيْكَ السلامُ .. عَلَيْكَ السلامْ !..

*     *     *

أخي  نحنُ بعدَ الأذَى والهَوان          سَنَعْلو على الخَلْقِ إنْسَاً وجَانّ

لَنا الصَّدْرُ أو مَنْزِلٌ في الجِنَان         وبعدَ   الأعاصيرِ    والزَّلْزَلَة

كَأنَّ فُؤادِي غَدَا قُنْبُلَة !..

*     *     *

 وما كدتُ أُنهي تلاوة الأبيات على مسامِعِه، حتى ابتسم (مصعب) ابتسامةً رائعةً عريضة، وأشرق وجهُهُ، وبدا طوال ذلك اليوم في غاية السعادة.. وفي المساء، اقتربتُ منه وقعدتُ إلى جانبه وأعدتُ تلاوة الأبيات الشِّعرية على مسامِعِه، فأمسكَ بيدي، وغَفا واضعاً رأسَه على فَخِذِي.. ونام ليلتَه تلك قريرَ العين، لكنها للأسف، وآهِ من لكن.. كانتْ الليلةَ الأخيرةَ في حياته!..

 .. .. ..!..

العَبْرَةُ الثانية

بناءً على طلب السيد (فرانسوا)، مندوب (منظمة العفو الدولية)، قرَّر الأستاذ (نادر) أن يكتبَ قصة المذبحة الكبرى التي وقعتْ في (سجن تدمر)، وأجّل ذلك إلى ليلة يوم الإثنين في 26 من حزيران، لأنّ ذلك يوافق نفسَ الوقت الذي ارتُكِبَت فيه المجزرة قبل خمسةٍ وعشرين عاماً.. تلك الليلة التي عاشَها داخلَ السجن لحظةً بلحظة، ودقيقةً وراء دقيقة، فأراد أن يُحيِيها ويعيشَ كلَّ أحداثها من جديد.. وبهذا تتنشّط ذاكرته، ويسهل عليه تقديم شهادته حول تلك المذبحة أمام (محكمة لاهاي)، وذلك في صباح اليوم التالي المحدَّد للاستماع لشهادته، أي صباح يوم الثلاثاء في 27 من حزيران 2005م.

فتحَ الأستاذ (نادر) نافذة غرفته، الواقعة في الطابق السابع والعشرين من الفندق المُطِلّ على (بحر الشمال)، ثم جمع أوراقَه، وأمسكَ بقلمه الممتلئ بالحبر الأحمر، وكتب :

_ كنا في ذلك اليوم مُنهَكين جداً، من التعذيب الشديد الذي كانوا يَصُبّونه علينا بمعدّل خمس وَجْباتٍ يومياً.. فمنذ الصباح الباكر كانوا يجمعوننا في الباحات، وينهالون علينا ضَرباً بالعصيّ الثخينة والسياط الغليظة والبَلطات.. فكانت تنفلق رؤوس بعضنا، وتتشقّق لحومنا، وتتكَسَّر عِظامنا، وتَسيل الدماء من كل أجسادنا.. كانوا يعملون على اتباع كل الأساليب لإذلالنا ومَحْوِ شخصياتنا تماماً.. في الاجتماع عذاب، وفي الحلاقة عذاب أشد، وفي وقت الطعام عذاب لا مثيل له، وفي وقت الاغتسال حماماتُ دم.. كان الجحيم الذي نحن فيه لا يُطيقه بشرٌ ولا حَجَر، ولا حيوانٌ ولا شجر.. وهذه الحال اليومية كانت تستمر شهوراً على هذا البرنامج، بل سنواتٍ طويلة.. لذلك كنا نعتبر أنّ الإعدام هو أهون العذاب!..

في يوم الإثنين الواقع في السادس والعشرين من حزيران عام 1980م، كانوا قد ألقوا بي في زنزانةٍ منفردةٍ قربَ ما يسمى بالمطبخ، وذلك بعد (حَفْلَةِ) تعذيبٍ شديدة.. فبقيت داخل الزنزانة مُغمَىً عليَّ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، ولم أفق إلا على أصواتِ جَلَبةٍ وفوضى.. سألتُ نفسي :

 ما الذي يجري في الخارج؟!.. ونجحتُ خلال الظلام الدامس من أن أعثرَ على شِقٍّ في باب الزنزانة.. فنظرتُ منه محاولاً –عبر أشعة الأضواء الخارجية الخافتة- أن أكتشفَ شيئاً أو ألتقطَ تفسيراً عما كان يجري.. وفجأةً، سمعت أصوات طائراتٍ حوّامةٍ تَحُطّ تِباعاً في المكان، ليتدفّقَ منها إلى داخل السجن، جنودُ إبليسَ المدَجَّجون بأحدث الرشاشات والقنابل الفردية، وليحتلّوا كل باحاته وممرّاته.. كاد قلبي ينخلع من مكانه، حينما رأيتُ مجموعةً منهم يفتحون أبواب المهاجع ويأمرون السجناءَ بالخروج !.. بعضُ السجناء نفَّذوا الأوامر فوراً، وبعضهم لم يتمكَّنوا، لشدة الإصابات التي كانوا يعانون منها جرّاء التعذيب، فيما عدد غير قليلٍ كانوا يُعَانون من أمراضٍ مختلفة!..

دقَّقتُ النظرَ من شِقِّ الباب في وجوه الجنود، فلم أعثرْ إلا على وجوهٍ سوداء يقطر الحقد من وَجْنَاتِها، وينتشر شَرَرُ اللؤم من حدقات عيونها، ويسيل لُعابُ الكراهيةِ من أفواهها.. فأدركتُ أنّ الأمر جَلَل، ودعوتُ الله أن يتلطَّف بي وبكل المساجين المساكين!..

تراجعتُ خطوةً إلى الوراء، وتيمَّمتُ بالغبار الذي يُغَطِّي أرضَ الزنزانة، وصلَّيتُ رَكعتين لله عز وجل على عَجَلَةٍ من أمري، ثم توجَّهت إليه سبحانه وتعالى بالدعاء : (اللهم إليكَ أشكو ضَعفَ قوّتي، وقلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس.. اللهم إن لم يكن بكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتَكَ أوسعُ لي، اللهم ارضَ عني وعن إخواني في هذا السِّجن، واكتبنا شهداء عندك يا رب العالمين، لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حَوْلَ ولا قوّة إلا بك).. ثم نظرتُ من شِقِّ الباب، وتفحَّصتُ وجوهَ إخواني السجناء الخارجين من مهاجعهم إلى الممرّات والباحات.. فوالله ما وجدتُ فيها إلا نوراً في ذلك الليل البهيم.. وكنتُ أميِّز علامات السجود لله عز وجل في وجه كلٍ منهم، وأرى في عيونهم الإصرارَ على الثبات حتى آخر لحظة، وفي خَبْطِ أقدامهم زلزلةً لقلوب الجنود الجلادين، وفي شموخِ قاماتهم أنَفَةَ الكرام.. كان كلٌ منهم يتمتمُ بما حفظه من القرآن الكريم، ويُسَبِّح الله عز وجل، فيجدُ في ذلك سلوى من العذاب الذي يتوقّعه في هذه الليلة السوداء!..

انتصبتُ خلفَ باب زنزانتي متوقِّعاً في كل لحظةٍ أن يمرَّ الجنود بي، ليُخرجوني منها كما أُخْرِجَ معظمُ السجناء من مهاجعهم.. لكنَّ الوقتَ مضى ثقيلاً جداً، ولم يفعلْ ذلك أيٌ منهم.. فعدتُ أنظُرُ من شِقِّ الباب لأتحسَّسَ الذي يجري.. أحسستُ أن حَلْقي قد جفّ، وأنّ لساني قد تَخَشَّب، ولم يقطعْ عليَّ هذا الإحساسَ إلا صوتُ أذان الفجر القادم من أحد المساجد البعيدة في المنطقة.. الذي سرعان ما اختلط بأصواتٍ رَهيبةٍ تصمُّ الآذان.. فقد اختلط بأزيز رصاص، وبأصوات مغاليق رشاشات، وبِدَوِيّ قنابل.. وبتكبيراتٍ وصَرْخاتٍ واستغاثاتٍ ملأت فضاءات المكان.. وبشتائمِ الجنود القبيحة مع كل صَلْية رشاش!.. وعندئذٍ فحسب، أيقنتُ أنَّ الأمر يتعلَّق بمذبحةٍ ضخمة!..

داهمتني نوبة غثيان، لكنني حرصتُ على ألا أنبّه الجنودَ إلى زنزانتي، وعُدتُ إلى النظر من شِقِّ الباب، لأرى ما لا عَيْنَ رأت، ولأسمعَ ما لا أُذُن سَمِعَت.. فالجنود أصابهم السُّعار، وتلبَّستهم الهيستريا من غزارة الدماء التي سفكوها، إذ كانت تسيل جداولَ في الممرات.. وكانوا يتفقَّدون المهاجعَ واحداً تلو الآخر.. لِيُجْهِزوا على ضحاياهم الذين ما يزالون داخلها، ثم يَرمون القنابل اليدوية على الأجساد الطاهرة، فتتناثر الأشلاء باتجاه الزوايا والجدران والسقوف، وتنقذف الدماء مع حُطامِ النوافذ!.. حاولتُ أن أكبتَ نفسي كي لا أتقيَّأ، وتابعتُ النظرَ إلى الخارج، فوجدتُ مجموعاتٍ أخرى من جنود إبليس، يقومون بتجميع الأشلاء والأجساد على شكلِ أكوام، ويُجْهِزون على الذين ما يزال فيهم رَمَقُ حياةٍ أو يئنّون.. ثم تأتي تباعاً سيارات جَمْعِ النفايات، لتحملَ الأكوامَ البشريةَ إلى أماكن مجهولة، لِتُدْفَنَ في قلب الصحراء!..

راقبتُ الوجوهَ الملطَّخةَ بالدماء أثناء تحميل الأكوام البشرية.. كانت وضّاءةً تُشِعُّ نوراً.. واستطعتُ أن أميِّزَ وَجْهَ صديقي (عُمَيْر) رحمه الله، الذي كان قبل يومَيْن يُناجي أمَّهُ شِعراً :

عندما جَاءَتْ يفيضُ الودُّ منها والحنين          تَطْرُقُ البابَ وفي  دَقَّتها  لَحنٌ  حَزينُ

أتُرَاها  تَطْلُبُ الوصْلَ وتَرجو أنْ ألين          أمْ تُراها ظَنَّتْ القيدَ يَهُزُّ الصامِدين ؟!..

*     *     *

عَلَّمَتْني صُحبَةَ القَيْدِ وأنغامَ السلاسِل          في سبيلِ الله مَاضٍ تابِعاً نَهْجَ الأوائل

*     *     *

راحِلٌ عنكِ أُقاسي مِنْ جِراحي وأسافِر          لا أُبالي بالمنايا وعلى الطُغيانِ ثائر

راحِلٌ  عنكِ  أغَنِّي  للسَّواقِي والبيادِر          أملأ  البَيْداءَ  نوراً  ونشيداً  وبشائر

*     *     *

بعد انتهائهم من تحميل الأكوام البشرية، التي كانتْ تنبعث من بعضها أصواتُ استغاثاتٍ وأنينٍ مخنوقة.. دخلت سيارات الإطفاء لتنظيف الممرّات والباحات.. ومع بزوغِ أول خيوطِ الفجر، سمعتُ أصواتَ الحوّامات تُقلِعُ بالجنود القَتَلة، إلى المكان الذي قَدِموا منه.. وحَلّ في السجنِ هدوء مخيف، شجّعني على أن أقومَ بمحاولاتٍ مُضنيةٍ لكسر باب الزنزانة والخروجِ منها، وحينما أفلحتُ بذلك.. تمنيتُ لو أنني بقيتُ حيثما كنت داخل زنزانتي.. فيا لَهَوْلِ ما رأيت : أعضاء بشرية، وأجزاء من عيونٍ وأنوفٍ وأصابع وفرواتِ رؤوس.. تلتصق مع دمائها على الجدران والسقوف.. وبقايا أقدامٍ وأذرعٍ تنهشها بعضُ كلاب الصحراء في الباحات!..

سَحَلْتُ جسدي الخائر باتجاه زنزانتي الانفرادية، وأغلقتُ على نفسي ما تبقّى من بابها.. ثم رقدتُ.. فأصابني الإغماء.. ولما أفقتُ بعد يومين، عرفتُ أنني موجود في غرفة الإسعاف الخاصة بالسِّجن، وفوق رأسي يخيِّم طبيب السِّجن، أو (طبيب العذاب) كما كنا نطلق عليه!..

سجِّل عندكَ يا سيد (فرانسوا) :

 كان نُزَلاء السجن يَعدّون أكثر من ألفِ شخص، ثلثاهم من خرّيجي الجامعات والعلماء والأدباء والأطباء والمحامين والمهندسين وأساتذة الجامعات والمثقَّفين، وثلثهم من طلاب الثانوية وطلاب الجامعات والمهنيين الآخرين.. أكثر من ثمانين بالمئة منهم لا علاقة لهم بأي عملٍ معارِضٍ للنظام.. وأكثر من نصف هؤلاء كانوا رهائن عن أقاربهم الفارّين من البطش والاضطهاد.. ورُبْعهم من الأحداث والفِتيان الذين لا تتجاوز أعمارهم الثمانية عشر عاماً!..

سجِّل عندكَ يا سيد (فرانسوا) :

 إنّ الجريمةَ النكراء الكبرى.. المذبحة.. المجزرة، وقعتْ بين ظَهراني قلعة زنوبيا التدمرية، وإلى جوارِ تدمر.. سراج الحضارة السورية الغابرة، التي كانت مشعل النور بوجه الهمجية والتخلّف والظلامية!..

كانت الأمّهات الباكيات، والزوجات الشاكيات، والطفلات الذابلات.. ينتظرنَ أن يُشرِقَ الأمل، فيحمل إليهنّ بشرى انعتاق الرجال والفتيان والشباب، الذين أُسِروا من غير وجه حق.. لكنّ حُكّام الشام، بدّدوا آمالهنّ في ساعةٍ من ساعات صباح السابع والعشرين من حزيران عام 1980م.. وحوّلوا الأسرى إلى أشلاء بطرفة عَين.. ودفنوا أحلامهنّ مع دفن مِزَقِ أبنائهنّ وأزواجهنّ وآبائهنّ وإخوتهنّ، في أخاديد الصحراء وتحت رمالها الساخنة !..

ألا تتحسَّس معي يا سيد (فرانسوا) في هذه الليلة، كيف فَقَدَتْ الأزهارُ شذاها، وكيف تكسَّرتْ سنابل الشام، وكيف تساقطتْ أوراقُ الشجر.. وضاقتْ الأرضُ بما رَحُبَت ؟!..

أكاد أختنق.. أكادُ أختنق يا سيد (فرانسوا).. فسامحني، لن أتمكن من متابعة الكتابة، سأصلّي الفجرَ وأعودُ إلى فراشي قبل طلوع الشمس!..

(بعد ربع ساعة).. عاد الأستاذ (نادر)، ليختمَ شهادتَه التي يُدَوِّنُها لصالح السيد (فرانسوا)، مندوب (منظمة العفو الدولية) :

 هاهي ذي خيوطُ الشمس ستبدأ بالبزوغ هنا في (لاهاي).. ولا أتوقّع أنها أشرقتْ أو ستشرق هذا اليوم في بلدي !..

العَبْرَةُ الأولى

قُبَيْلَ ظَهيرة يومِ الثلاثاء بتاريخ 27 من حزيران 2005م، وقف الأستاذ (نادر) أمام محكمة العدل الدولية في (لاهاي)، ليقدّمَ شهادتَه حول مذبحة (سجن تدمر) الجماعية.. سأله القاضي -رئيسَ المحكمة- مجموعةَ أسئلةٍ روتينيةٍ في بداية الجلسة :

 ما اسمك ؟!..

 نادر عبد الرحمن الشرعي.

 عمرك ؟!..

 ثلاث وستون سنةً.

 جنسيتك ؟!..

 سوريّة.

 مستواكَ التعليمي ؟!..

 ماجستير في التاريخ.. خريج جامعة دمشق.

 هل شاهدتَ المذبحة بنفسك ؟!..

 نعم يا سيدي.

 القاضي : قدّم شهادتَك عن الأحداث التي وقعت في (سِجن تدمر) منذ خمسةٍ وعشرين عاماً، وكم عدد الضحايا، وأعمارهم، والتُّهَم التي كانت موجَّهةً إليهم، ومستوياتهم التعليمية.. ومُشاهداتك خلال ارتكاب المجزرة.. وفيما إذا كنتَ تعرف أسماء الجُناةِ الذين ارتكبوها.. وغير ذلك مما ترغب بقوله..

 نادر : ألفُ فلذة كبدٍ أو يزيد يا سيدي، من أنقى أبناء بلدي، وأجودهم ثقافةً وعلماً وشرفاً رفيعاً.. تناثرت دماؤهم الطاهرة، على جدران (سِجن تدمر) الصحراويّ.. فقد قتلوهم بدمٍ بارد.. .. ..

.. .. .. !.. .. .. !..

.. .. !.. .. !..

.. !..

وما يزالُ الأستاذ نادر، يَسرد للمحكمة تفاصيلَ أحداث المجزرة التدمريّة الكبرى، والمجازر التي سبقتها في نفس السجن الصحراويّ، وكذلك التي تَلتها.. ولم ينتهِ من السَّرد وتقديم شهادته الكاملة حتى اليوم، على الرغم من حضوره تِسْع جلساتٍ خاصةٍ عقدتها المحكمة حتى الآن، وذلك للاستماع إلى شهادته بشكلٍ كاملٍ واضح!..

              

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام