أريد طفلاً

أريد طفلاً

منال المغربي

[email protected]

((سارعي بإنجاب طفل قبل فوات الأوان لأننا بحال أجرينا لكِ العملية فإنكِ لن تتمكنين......)) شفتا الطبيبة ما زالت تتمتمان ولكنّ الكلمات لم تصلها لأنّ أذنيها صُمّتا عن سماع المزيد.

بقيت مستلقية على سرير الفحص وعينيها مسمّرتين على السقف بينما عقلها يُبحر بها إلى شواطىء الذهول والصدمة... صحيح أنّ الزواج وإنجاب الأطفال لم يكونا ضمن أولوياتها إلا أنّها عندما تلقتْ نبأ حاجتها إلى عملية ((استئصال الرحم)) شعرتْ بأنّ كابوساً رهيباً جَثَم فوق صدرها، وتذكّرت عبارتها المشهورة: ((بيت وزوج وأولاد؟! إذن مسؤوليات وطلبات لا تنتهي، أوف، لماذا الهمّ والغمّ؟ ولماذا أقيّد حريتي؟ عندي وظيفة تحلم بها الكثيرات، كما أني أحيا حياتي بالطول والعرض، فماذا أريد أكثر من ذلك؟)).

 وبدأت تستعرض في مخيلتها أسماء كل الذين تقدّموا لها، وأُصيبت بالهلع عندما تذكّرت أنّ اللائحة توقفت منذ 8 سنوات بينما عمرها ما زال يمضي بها مسرعاً تاركاً آثاره على وجهها وشعرها، شعرت بانقباض في صدرها؛  وكالغريق الذي أشرف على الهلاك هتفت: ((أنا بحاجة لتنشق هواء نقي))... لملمت نفسها وخرجت من عيادة الطبيبة بعد أن أعطتها مهلة للتفكير بالموضوع.

  مرّت الأيام ثقيلة متباطئة رغم أنّها حاولت إقناع نفسها أنّ هذه العملية لن تضيف إلى حياتها أو تُنقص منها شيئاً ولكن عبثاً فغريزة الأمومة كانت تستيقظ داخلها بين الفَينة والأخرى، تزيدها عطشاً لطفل يروي ظمأها لها. لم تجد كتفاً ترمي عليه متاعبها، وصدراً تبثه همومها ومخاوفها، وقلباً يتعاطف معها خير من صديقتها: (( أكاد أفقد صوابي، أين ذهب كل الذين تقدّموا لي؟))وكان الجواب سريعاً ((عزيزتي، هل كنتِ تتوقعين أن واحداً منهم سينتظركِ؟! كلهم تزوجوا وكوّنوا أسراً، أنتِ التي كنتِ نَزِقة...))

(( ولكن ما الحل؟ أريدُ طفلاً بأسرعِ وقت ممكن))

((ما رأيك بطارق؟ صحيح أنه متزوج وعنده أولاد ولكنكِ بالمقابل ستحققين حلمكِ بالإنجاب، ما رأيكِ؟ استغلّي الفرصة فعرضه ما زال قائماً)).

((ماااااااذا؟ بعد كل هذا العمر... أصوم وأفطر على بصلة... أنسيتِ المركز الذي أشغله الان؟! ماذا سيقول أصدقائي ومعارفي عني؟! أكيد لا، اصرفي النظر عن الموضوع لو سمحتِ))

 ((وجدته... وجدته)) وبدأت تقفز كالأطفال من شدّة سعادتها بينما صديقتها تنظر إليها بدهشة ((إنّه فرنسوا، نظراته لا تفارقني أبداً... عدة مناسبات أبدى فيها إعجابه بي كما أن كل المواصفات التي أبحث عنها في الرجل متوفّرة فيه (وسامة ومنصب ولم يسبق له أن خاض تجربة الزواج)، سأتزوجه وأنجب منه طفلاً وبعد ذلك كل واحد منا سيذهب في سبيله))

((ماااااذا؟ أنتِ مجنونة، إنه غير مسلم؟!))

(( يا لكِ من جاهلة، ألم تسمعي بالزواج المدني؟ ولكني سأشترط عليه أن تكون ديانة ولدنا في الدوائر والسجلات الرسمية... الإسلام))

((ولكنه في كل الأحوال سيكون ابن زنا، وعلاقتكِ به غير شرعية؛ أنصحك باستشارة أهل العلم، أتسمعينني أم أني أُحادث نفسي؟))

ولكن لا حياة لمن تنادي، فلقد كانت عيناها ووجدانها وفكرها في وادٍ ونصائح زميلتها في وادٍ آخر.

 شهر كامل كان كافياً لإتمام مراسم الزفاف الذي كان بسيطاً جداً بعده طار العروسان إلى إحدى الجزر الاستوائية لقضاء شهر العسل... أسابيع قليلة وبدأت تظهر عليها عوارض الحمل، فأخذت تعيش التجربة لحظة بلحظة... صورة جنينها على التلفاز وحركته داخلها وضربات قلبه التي كانت تسمعها بوضوح، تفاصيل كانت تزيدها شوقاً إلى يوم اللقاء.

ومرت الشهور التسعة كالحلم، وأخيراً... أبصر المولود النور، ومعه بدأت المشاكل بينها وبين زوجها تتفاقم، البداية كانت حول اسم المولود: هو يريد تسميته (نيكولاس) تيمناً باسم والده، وهي تريد أن تُطلق عليه اسماً عربياً، واحتدم الخلاف بينهما حتى اتفقا على حلِّ وسط حينما أطلقا على المولود اسم: (داني)، ولكنّ الصدمة الشديدة كانت عندما أصرّ (فرانسوا) على ترك خانة (ديانة) فارغة، وحجته أنّ (داني) وحده من يملك حقّ الاختيار عندما يكبر.

واتسع الشرخ بينها وبين فرانسوا واستحال ترميمه بعد 3 سنوات هي عمر(داني) كله، لا سيما عندما كانت ترى مدى تعلّق ولدها بوالده الذي كان يزداد يوماً بعد يوم، فلم تستطع الاحتمال لأنّها أرادت أن تستأثره لنفسها، ولامتها صديقتها على ذلك: ((لا يحقّ لكِ ذلك، إنه والده!!))

((بإمكانه أن ينجب غيره أما أنا فلا، لذلك أريده لنفسي لا أريد أن يشاركني فيه أحد))، واتخذت قرارها... ((لقد آن الأوان للانفصال...  نعم الانفصال، فثلاث سنوات شاركته فيها حياتي تكفي)).

((وماذا ستفعلين؟ فرانسوا متعلّق بولده إلى أقصى درجة؟))

((سأوقع عقد العمل الذي عرضته علي إحدى الشركات في ماليزيا، وسأصطحب داني معي، وسنبدأ معاً حياة جديدة))

وأتى اليوم الموعود... جهّزت الأوراق، واستغلت فرصة وجود (فرانسوا) في العمل لتحضير الأمتعة ((سأنطلق إلى الحضانة لأصطحب داني ومن بعدها سنتوجه إلى المطار مباشرة)) كان وجهها يطفح بالبشر وهي تشرح تفاصيل خطتها لصديقتها.

 وصلت إلى الحضانة على الوقت تماماً، فتوجهت مسرعةً إلى صف (داني)  ثمّ توقفت قليلاً تراقب الأطفال وهم يهرعون إلى أحضان أمهاتهم، هذه المشاهد غمرتها بالسعادة... وأشعرتها بالاعتزاز لكونها أم أيضاً... أغمضت عينيها فتمثّلت لها صورة ابنها أمام ناظريها وصوت ضحكته الشقيّة لا تفارق سمعها (( ما أوسمك... عندما أراك داني سأضمك بين ذراعي، وسأمنحك كل الحنان الموجود في قلوب الأمهات جميعاً))

فتحت عينيها لتجد معلمة ابنها تتأملها باستغراب، فقالت لها متلعثمة: ((لو سمحتِ أريد داني))

ردّت المعلمة وابتسامة خفيفة تعلو شفتيها: ((أخذه والده من حوالي ربع ساعة...))

وكأنها هوت من سفح جبل؛ فلم تقوَ قدماها على حملها، ساعدتها المعلمة بالجلوس على مقعد قريب وأخذت تهدأ من روعها: ((هوِّني عليكِ إنه بأيدي أمينة، إنه مع والده)).

تحاملت على نفسها للوصول إلى سيارتها وانطلقت بها بسرعة جنونية، غير مكترثة بالأشخاص الذين كادت أن تدهسهم أو السيارات التي اصطدمت بها، بينما أخذت الكلمات والعبارات تتطاير من فمها ((لماذا كل هذا القلق؟ أحياناً هو من يأتي به من الحضانة... ولكن... ولكن... هل يعقل أن يختطفه؟ )) وأخذت تبكي بحرقة: ((آه داني بدونك  ستصبح حياتي صحراء مقفرة... إلهي أتوسل إليك أن لا تحرمني منه)) وتوقفت عن الدعاء؛ فلقد انتابها إحساس بالخجل،  وتصاعد نحيبها أكثر فأكثر:((كيف سيقبل الله دعائي بعد كل ما فعلته؟!))

 ((داني... داني.. )) بُحّ صوتها من شدة الصراخ وهي تفتش عنه في كل أرجاء المنزل، لم يفارق اسمه لسانها إلا عندما تأكّدت أنه لا يوجد له أي أثر؛ فلقد كان البيت خالياً كبيت الأشباح... دخلت غرفة نومها وألقت نظرة سريعة على خزانة فرانسوا ... شعرت بشيء من الاطمئنان حينما رأت ثيابه ما زالت معلّقة لم تُمسْ كما تركها صباحاً وأخذت تضحك بهيستيرية وتهذي كالمجنونة: ((أكيد يشتري لداني ألعاباً، فهذه عادته كلما اصطحبه من المدرسة))

جلست على طرف السرير لتستريح فلقد كانت كل عظامها تؤلمها، فاصطدمت أناملها ببطاقة صغيرة كُتب عليها: ((مهما فتشتِ، ومهما بحثتِ فلن تجدي إلينا سبيلا.... فرانسوا)).