الساجد لغير الله
الساجد لغير الله
د. فاروق المناصير
قصّ علينا أستاذنا الجامعي هذه القصة الغريبة والعجيبة التي حدثت له فقال : في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كانت تمر علينا أشهر الصيف ثقيلة وكئيبة ، كنت حينها في المرحلة الإعدادية ولم يكن في ذلك الوقت برامج مفيدة نشغل بها أوقاتنا ونقضي بها أشهر الصيف القائظ والحار كما هو حال أبناءنا هذه الأيام ، حيث مراكز الطفولة والشباب ومراكز تحفيظ القرآن والرحلات والمخيمات والبرامج العديدة والمفيدة .
يومها .. طلبت والدي أن يبحث لي عن عمل .. أي عمل ، أقضي به وقتي وأكسب منه خبرة عملية أدخرها لقادم الأيام وتقلب الزمان وتغير المكان ، ولكن والدي ـ وفقه الله ـ أشفق عليّ لحداثة سني وقلة خبرتي بالناس وبالحياة .. وتحت إلحاحي الشديد ومطالبتي المستمرة ، استطاع أن يجد لي عملاً في إحدى مؤسسات الدولة العامة ذات الصفة الخدماتية .
وهكذا بدأت حياتي العملية في تلك المؤسسة العامة والهامة ، وأنا صغير يافع لا أعرف من حياة الناس وأخلاقهم وسلوكياتهم إلا النذر اليسير.
ولكني ، والحق أقول ، كانت هذه الوظيفة صدمة عنيفة لنفسي وديني ، فقد رأيت في تلك المؤسسة الغرائب والعجائب .
رأيت بشراً لا يمتون إلى البشرية إلا بالاسم فقط ، أما أخلاقهم وأما سلوكياتهم ، وأما دينهم ، فشيء آخر تماماً ، مع وجود البعض وهم قليل من أهل الخير والصلاح ، ولكنهم قطرة في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض .
رأيت بنفسي ولم يخبرني أحد ، رأيت رجالاً همهم الأول السرقة والاختلاس من المال العام (الحرام) ، ورأيت رجالاً قد عشعشت في عقولهم وقلوبهم أوهام (الماركسية) والشيوعية والإلحاد والكفر الصريح والواضح ، وشتم الخالق الكريم ليل نهار، سراً وعلانية ، فإذا ذكّرهم أحد بمغبة هذا السلوك الشائن ، سخروا منه واستهزؤوا به وقد يشتمونه أو يضربونه .
ورأيت أشخاصاً مُلئت نفوسهم بالطائفية البغيضة والحقد الأسود على كل من يخالفهم في المذهب والمنهج والطائفة ، فهم يتعاملون مع غيرهم وفق المنظور الطائفي .
ورأيت أناساً همهم الوحيد تضييع الأوقات في شرب الشاي وقراءة الصحف والجرائد ، والثرثرة الفارغة ، أما مصالح الناس فهي في خبر كان وأخواتها .
ورأيت بشراً من الناس يبحثون عن المتع الجنسية حلالها وحرامها في أي مصدر كانت ، ومن أين جاءت أو خرجت .. حتى أن بعضهم كان يسافر إلى جنوب شرق آسيا بحثاً عن الرذيلة والجنس الرخيص ويُمارس الفجور والانحلال مع (المومسات) والساقطات وحثالات المجتمع ، ثم لا يكتفي بهذا الأمر الشائن بل يقوم بتصوير نفسه ، وهو يمارس الرذيلة ، ثم يقوم بعرض تلك الصور (الفوتوغرافية) على أصحابه وزملائه في العمل ، كنوع من التباهي والزهو، وكدليل على رجولته وفحولته دون خوف أو حياء أو خشية من الله ثم من الناس .
ولكن أبشع وأغرب ما رأيت وشاهدت في تلك المؤسسة العامة هي هذه الحادثة ، حيث دخلت في أحد الأيام وبعد صلاة العصر (ورشة) العمل ، فرأيت أمراً عجيباً .. رأيت المسؤول الكبير واقفاً على قدميه وقد أسند ظهره إلى الجدار.. ومن أسفل منه بل عند قدميه (رجل ساجد) وهو يدعوه ويقول له :
ـ سبحان مسؤولي الأعلى .. يا إلهي وخالقي هَبني ديناراً واحداً .
والمسؤول الكبير يضحك ويقهقه بصوتٍ عالٍ ، وهو مسرور وفخور بهذه الفعلة المنكرة .
فما كان مني إلا أن أجري نحوهما وأنا الصغير وخاطبت الرجل الساجد بقوة وعنف قائلاً له :
ـ قم يا تافه ، فهذا المسؤول الخسيس ليس بإله ولا خالق ولا ربّ يعبد من دون الله وهو لا يملك لك ولا لنفسه رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ولا حياة أو مماتاً .
فحرك الرجل الساجد رأسه نحوي وقال :
ـ كلا .. بل هذا ربي ورازقي .
ثم أردف يقول :
ـ كأنك من الصالحين والمصلحين ، فإذا كنت كذلك فاذهب إلى أهل المساجد وانصحهم ، فهم يعبدون ويسجدون من لا يرونه ولا يسمعونه .
واستمر في سجوده المُذل والسافل وكأنه لم يسمع مني كلمات التوبيخ والتقريع .
وتدور الأيام والليالي والسنوات تربو على خمسة عشر عاماً ، كنت خلالها قد تخرجت من الثانوية العامة ثم من الجامعة وتسلمت وظيفتي في الجامعة كمحاضر، ثم اقترنت بأسرة كريمة وطيبة وبزوجة صالحة ومحبة للدين والخير.
وفي أحد أيام الخطبة ذهبت بها إلى أحد المجمعات التجارية لأشتري لها هدية ، وأثناء ولوجنا إلى داخل المجمع تعلقت عباءتها بشيء ، فجرتها بقوة ، فنظرت فوجدت أن العباءة قد تعلقت بيد إنسان بائس فقير، وقد ارتدى ثوباً قذراً كأن أوساخ الدنيا كلها قد تجمعت عليه ، وقد لفّ على رأسه (غترة) بيضاء ولكنها بفعل الزمن قد انقلبت سوداء تنبعث منها ومن الثوب الروائح الكريهة والمقززة ، وقد نكّس رأسه على ساعده في صورة بائسة وحزينة ، فنزرت إلى وجهه وتأملت صورته ثم قلت :
ـ حسبنا الله ونعم الوكيل .. لا حول ولا قوة إلا بالله : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران : 26]
فقالت زوجتي :
ـ لمَ تقرأ هذه الآيات الكريمات ؟
فقلت لها :
ـ يا زوجتي العزيزة ، إن لي مع هذا البائس قصة غريبة وعجيبة حدثت منذ سنوات طوال ، وقصصت عليها تلك الواقعة البعيدة ، عندما رأيت هذا البائس ساجداً لذلك المسؤول الكبير، فنصحته وحذرته من مغبة الكفر بالله وطلب النفع والخير من غيره ـ سبحانه وتعالى ـ ولكنه لم يرعوِ ولم يستمع لنصائحي ، فأوكله الله إلى الناس والشياطين يتلاعبون به .. حتى وصل حاله إلى ما ترين من البؤس والفقر والفاقة .
فقالت زوجتي :
ـ { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران : 140] تلك عاقبة (الساجد) لغير الله في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأنكى .