أمة الله

أمة الله

محمد الخليلي

[email protected]

كان عبد الجليل يذرع ممر المستشفى جيئة وذهابا منتظرا الخبر المفرح الذي طال انتظاره . وفجأة انطلقت زغاريد النساء تملاأ الأفق حبورا فقد رزقه الله ابنةجميلة , وخر عبد الجليل ساجدا شكرا لله الذي من عليه بهذه الهبة العظيمة.أجل إنها أكبر هبة من الله لذا يروق له أن يسميها هبة الله.

كان عبد الجليل يعد أيام ابنته يوما بعد يوم وهو يرقب نموها . حقا إنها أعظم منة من الله عز وجل.

وذات ليلة صحا عبد الجليل وزجه أمة الله على صراخ ابنتهما. وبعد ساعة عرف الأبوان أن الصغيرة التي جاوزت السنة قد ارتفعت حرارتها بشدة . بدأت الأم بوضع الكمادات الباردة على رأس وجبين الصغيرة وألقمتها كل ما توفر عندها من خافضات الحرارة, ولكن صراخ الطفلة وحرارتها كانا يزدادان اطرادا, فقرر والداها بعد أن صليا الفجر أن يذهبا بها إلى المستشفى .

وهناك عملت كل الفحوصات المطلوبة وحار الأطباء في معرفة السبب المؤدي للحرارة .

مكثت الصغيرة في المشفى زهاء أسبوع وكانت حالتها الصحية تتدهور شيئا فشيئا , والأطباء يتخبطون شمالا ويمينا , فقد أجروا كل الفحوصات المطلوبة وغير المطلوبة ولكن دون جدوى .

أخيرا قرر الأطباء إرسال الفحوصات إلى بريطانيا لدراستها. ومر أسبوع ثان ٍ وصحة الصغيرة ذات الربيع الأول تسوء يوما بعد يوم .

وبعد انتظار لم يطل أكثر من أسبوعين , ولكن الأب المكلوم ظنه سنتين وصلت النتائج .

كان الطبيب حائرا في طريقة إيصال الخبر لوالد المريضة فقال له : إن مرض ابنتك صعب قليلا لكنه قابل للشفاء وما عليك إلا أن تتقبل قضاء الله بنفس راضية . كاد عبد الجليل أن يسقط أرضا ً عندما سمع كلمة سرطان من فم الطبيب . أردف الطبيب مطمئنا : نعم إن الفحوصات أظهرت وجود سرطان بسيط عند ابنتك ولكنه قابل للشفاء إن شاء الله .

طفق عبد الجليل يطوِّف بوحيدته من طبيب لآخر ومن مستشفى لثان فثالث

ولكن الجميع كانوا شبه مجمعين على أن الحالة شبه ميأوس منها .وأخيرا نصحه طبيب صديق أن يذهب بها إلى الأردن فإن الطب فيها متقدم كثيرا عن الطب في اليمن .

أخذ عبد الجليل إجازة مفتوحة من وزارة التربية والتعلم حيث كان يعمل مدرسا للرياضيات واستقل أول طائرة مغادرة إلى عمان .

وفي المشفى الإسلامي بدأت هبة الله تتلقى علاجات مرض السرطان بإشراف أمهر الأطباء في الأردن . وبعد مرور ثلاثة شهور نفد كل ما مع عبد الجليل وزوجه من نقود , فاضطرت  زوجه لبيع كل ما تملك من مصاغ كي تعاج به فلذة كبدها . لم يصمد ثمن المصاغ أكثر من شهرين أمام فحش أسعار أدوية معالجة السرطان. لذا كان لابد من بيع بعض أثاث المنزل. اتصل مع أخيه في اليمن كي يمده بنجدة , فأرسل له أخوه على عجل ثمن الأثاث المباع . بعد أقل من شهر قرر الأطباء ضرورة إجراء عملية جراحية لهبة الله لاستئصال الورم الذي بدأيطرد بالانتشار . ولكن أنى للوالد الفقير عمل ذلك فقد كاد ثمن الأثاث أن ينفد , لذلك سارع عبد الجليل للاتصال بأخيه خالد كي يبيع له سيارته الصغيرة كي يتدبر الأمر .

وتمر الشهور تلو الشهور وحالة الصغيرة تزداد سوءا ونقود عبد الجليل تتناقص بتسارع عجيب . لم يبق عنده إلا بيته الريفي المتواضع , أيفرط به لإجراء العملية الجراحية الثانية التي قررها الأطباء , أم يستسلم للأقدار ورأي البعض الذين يرون أن لافائدة من حالة البنت الميؤس منها؟.

بدأت تتنازع الفكرتان في رأس الوالد المحزون , ولم يطل التفكير طويلا إذ سرعان ماأجهش بالبكاء قائلا لزوجه : والله سأبيع ماعلي من ثياب وأشتري ما قد تحتاجه هبة الله من دواء .

مر اثنا عشر شهرا وهبة الله أصبحت كالطيف فوزنها لا يزيد عن تسعة كيلو جرامات في الوقت الذي كان عمرها ينوف عن السنتين . كان الوالد المهدود يتناوب مع زوجه في رعاية الصغيرة ,فهو يتولى الفترة النهارية وهي تتولى الليلية .

وذات ليلة اتصلت أمة الله موهنا بزوجها في فندق الخليل حيث يسكن منذ أكثر كم سنة . رفع عبد الجليل سماعة الهاتف فإذا بصوت محزون يقرع أذنه ..إنه صوت زوجه .

ماذا وراءك يأم هبة فلقد غادرتكم قبل ساعات ؟ هل حصل مكروه لهبة ؟

وبدأ قلبه يخفق بسرعة مئتي دقة في الدقيقة .

قالت الأم المفجوعة : نعم يا عبد الجليل إن صحة هبة قد تدهورت بعد أن عدت إلى الفندق وهي في حالة صعبة الآن , لذا أرجوك أن تسرع بالمجيء إلينا.

بدأت تنتاب الوالد المفزوع وساوس شتى , أترى هبة الآن في العناية المركزة كما في الحالات السابقة ؟ أم أنها تُحتضر ؟ أم أنها قد قضت نحبها؟ لا..لا أريد أن أراها ولو لدقيقتين فأطبع على وجنتيها قبلتي الوداع . كل هذه الأفكار كانت تعتمل في  فكر الوالد الذي ظن أن المسافة من الفندق إلى المشفى كما هي من اليمن إلى الأردن برا ً.

وعلى باب المشفى وجد أمة الله تنتظره . فصرخ فيها قائلا :كيف تتركين الصغيرة وحدها تصارع الموت؟ قالت أمة الله :اطمئن يازوجي الحبيب فإن هبة الآن بين يدي أرحم الأطباء وأمهرهم وهي الآن أسكن من ذي قبل. هدأ

روع الوالد ولكنه عاد للهيجان قائلا: اذا دعيني أراها. فأردفت الوالدة المصابرة : لقد منع الأطباء زيارتها إلى حين. استسلم عبد الجليل لمقال زوجة رغم أن بعض الشكوك تراوده في صحة ما تقول .

استراح الوالد على أريكة في صالة الانتظار وأسند رأسه إلى كتف زوجته

فأخذته سنة من النوم . رأى فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت ولكن أعماله لم تسعفه في دخول الجنة , فاقتاده زبانية النار إلى جهنم .وفجأة تمتد إليه يد صغيرة ناعمة فتقول له صاحبتها : تعال معي لأريك مقعدك الذي أبدلك الله به في الجنة . فيصيح من الفرح : ولكن من أنت ؟ فتقول الصغيرة أنا ابنتك هبة الله , أنسيتني ؟ أنا لم أنسى الليالي التي سهرتها بجواري , والله لم يضيع لك ماأنفقت في سبيل شفائي , فهيا ندخل الجنة معا .

أفاق الوالد من غفوته فزعا وهو يردد الحمد لله أن من علي بالجنة . سارعت زوجه لسؤاله : اية جنة يا عبد الجليل ؟ فقاطعها : أين هبة ؟ أريدها أن تدخلني الجنة . هدأت المرأة المصطبرة من روع زجها قائلة : إذا كنت تريد الجنة ياأبا هبة فأجبني عن هذا السؤال: أرأيت لو أننا استعرنا من جيراننا شيئا ثم جاؤونا يطلبون عاريتهم ,أفلا نردها لهم ؟ قال بلى . قالت فاصبر واحتسب ابنتك عند الله فقد استرد الله عاريته .

دُفنت الصغيرة في مقبرة (سحاب) الإسلامية , وعاد عبد الجليل وزوجه أدراجهما إلى وطنه اليمن دون هبة , وحيث لاسيارة ولابيت ولاأثاث , ولكنه كان يترنم بالحلم الذي رآه في ردهة المشفى الإسلامي وينتظر اليوم الذي تأخذ هبة بيده ويد أمها العظيمة إلى الجنة , تلك الأم التي سطرت للتاريخ قصة تروي أن الصحابيات متن ولكنهن تركن وراءهن خلفا لخير سلف.

أمة الله

صـبرا ًصــبراً   أمةَ   الله             صبرك ألجمَ صوتَ الآهِ

صــــبرك أختي قد علمنا             كيف الفخر وكيف نباهي

               

بخطى من أفجعها القـــدرُ              صبرت حتى خجل الصبرُ

عنها فاحــكوا بل وافتخروا              فلقد رضيـت بقضا الله

 

صبرت صبرا بل واصطبرت             وعلى قدر المولى شكرت

ولقـد خطت ولقــد رسمت             معنى الصــبربلون زاه

 

صـبرك قد علمنا الشكـرا               أمـةَ الله لأنت البشرى

صبرك عند الخطب لذكرى                 لمن ادَّكر ومن هو لاهِ