الآخــر
الآخــر
محمد الحسناوي
حامد عبد الواحد شخصان في واحد . الأول متزوج، له أولاد وحفدة . يشتغل في الأدب والسياسة ، يغشى الأسواق والنوادي ، يأكل ويشرب ، وينام ككل الناس . أما الثاني فهو كامن . هو الأصل ، لكنه لا يشارك بكل هذه الممارسات والعلاقات . إنه يتخفف منها ، يعدّها شكليات ، فيها الأداء الآلي ، وفيها أحياناً بعض النفاق ، وفيها ما لا يستحق العناء من تفكير وتدبير واتخاذ قرارات مصيرية .
في الأحوال العادية لا يحس حامد إحساساً واضحاً بهذه الازدواجية ، وإن كان يعلم أنها أمر واقع . إن التوازي والتوافق بين هذين الشخصين يبلغ حدّ التماهي في أكثر الأحوال ، فيزول التوازي والثنائية . في ظروف الأزمات يختلف الأمر .
يلحظ حامد في حياته بعد سن الرشد - طوال أربعين عاماً - مرحلتين : عشرون عاماً منها قضاها في وطنه ، كان فيها الازدواج كثير الوضوح والإلحاح ، لحاجة حامد إلى ممارسة دورين ظاهر وباطن ، في حياة عامة مسمومة . حياة انفصل فيها الناس عن المؤسسة العامة الكبرى ، فانفصلوا عن ذواتهم أيضاً خوفاً ومداراة. حامد هو من هؤلاء الناس . بل دخل في تجارب مواجهة وتغييب ، فكان لحامد الظاهر دوره الدائر في التمويه والمراوغة وحماية حامد الآخر . استخدم حامد الظاهر أسماء وألقاباً لإخفاء حامد الآخر : محمد بهار الشاعر ، خالد سمان السياسي ، أبو خليل وأبو الحارث وأمثالها . مع ذلك أضطر حامد الكامن إلى الاستعلان ، وإزاحة القناع ، والمواجهة السافرة في بعض المحطات .
في المرحلة الثانية من عمره ، مرحلة الهجرة والغربة عن الوطن ، عاد الانسجام والاندغام بين حامدين ، إلا حين دخول المطارات ، أو عبور مناطق الحدود ، أو جلسات التحقيق .
* * *
اليوم بعد السادسة والستين من العمر حصل طاريء ، انعطاف مصيري .
قال الطبيب : بناء على هذه التحليلات ، أنت مصاب ( بفشل كلويّ ) مزمن . لابد من علاج عاجل ، غسل الكلى أو زراعة كلية جديدة .
حامد الظاهر تلقى الصدمة . بدأ يتعامل معها . يتفهّم . يتأكد . يبحث عن حلول . أما حامد الآخر ، فكأن الأمر لا يعنيه . ترك لحامد الأول أن يأخذ مداه ، أن ينفرد بكل ما يلزم . مثل مشكلة النفقات ، مشكلة التعرض لمبضع الجرّاح ، الإجراءات الطبية داخل الجسد وخارجه ، عاجلاً أو آجلاً .
حامد الآن ممدّد على سرير المستشفى لإجراء عملية قسطرة عاجلة وغسل الكلى . لم يعترض حامد الآخر . لم يفكر أصلاً بالاعتراض ، لأن حامداً الظاهر يمارس اختصاصه ، ويجتهد في اتخاذ قرار إسعافيّ .
خلال أربع ساعات - ودم حامد يجري دخولاً وخروجاً ، عبر الأنابيب الشفافة من على صدره – أتيح لحامد الظاهر إيقاظ حامد الآخر وإطلاعه على تفاصيل الأزمة الطارئة ، والحلول المقترحة .
شخّص حامد الظاهر مشكلتين اثنتين . أقدم منفرداً على وضع حلّ لهما . الأولى : مشكلة النفقات المالية الباهظة للعلاج والتداوي ، وذلك بطرق أبواب الإعفاء الرسمي ، أو الاستعانة بالأهل والأقرباء . المؤشرات واعدة . المشكلة الثانية : إجراء عملية قسطرة والانطراح في المستشفى مرتين أو ثلاث أسبوعياً ، وكل مرة أربع ساعات لغسل الكلى ، أو إجراء عملية زرع كلية . في الخيار الأول هدر للوقت ، وفي الخيارين شقّ جزء أو أجزاء من البدن ، وتعرّض للآلام والاحتمالات غير السارة . أما الاحتمالات غير السارة فهي محدودة مع تقدم العلم والتكنولوجيا ، وأما الوقت المهدور ، فيمكن استغلاله في التأمل والتخطيط والحمد والتسبيح والاستغفار .
- ما رأيك ؟ قال حامد الظاهر .
لم يجب مباشرة حامد الآخر . فكّر ، ثم فكّر ، ثم فكّر ، ثم قال أخيراً : هل هذا كلّ شيء ؟
قال حامد الظاهر : هذا كل شيء .
إلى هذه اللحظة لم يكترث حامد الآخر لكل ما حصل , فحامد الظاهر هو الذي سيتلقى آلام الجراح، وتضييع الأوقات ، ومعاناة المواجهة للمسهمين في النفقات ، وإن كانت الجراح مؤلمة ، ومواجهة الآخرين طلباً لللإنفاق أشدّ إيلاماً . لكن إذا كانت الأزمة كلها تُحلّ هكذا ، فليكن . . لقد سبق لحامد الظاهر أن نجح في أداء هذه الأدوار أكثر من مرة ، وفي مواجهة أزماتها .
لم يصدق حامد الآخر حتى الآن ما حصل له . لم يصدق أن مثل هذه الأزمة تكفيها المعالجات التي خطط لها حامد الظاهر .
التمدد على السرير طوال أربع ساعات ، أتاح له التدخل الحقيقي وتقويم ما حصل . إن إجراءات حامد الظاهر تناولت بعض جوانب الأزمة لا كلها . كان ظهور الفشل الكلوي مؤشراً على انهدام ركن من أركان الجسد ، الذي أشرف على نهاية مساره ، أي سنّ السادسة والستين . هناك توقع أن يتتابع انهدام أركان أخرى ، حتى يهمد الجسد نهائياً . هذا إذا نجحت عمليات الغسل أو زرع الكلية الجديدة . باختصار ما حصل ليس أكثر من تأجيل للموت الذي اقترب .
هل من وظيفة القناع أو حامد الظاهر أن يتعامل مع الموت ؟
حامد الظاهر سوف ينتهي وجوده بالموت . إنه موت الجسد والأعضاء . لن يبقى إلا الروح . إي لن يبقى إلا حامد الكامن .
حامد الظاهر انتهى دوره أو سوف ينتهي قريباً ، أي بعد الموت ، رضي حامد الآخر أو لم يرض .
سوف يكون البقاء لحامد الآخر وحده ، والقرار له وحده ، والمصير له وحده ، وسوف يتعامل في عالم آخر مع طرف آخر غير الزوجة والأولاد والناس وبوابات الحدود والمطارات ، أولئك الذين انتهوا مع نهاية القناع . سوف يتعامل مكشوفاً مع الله تعالى .
إذن مع من كان يتعامل طوال ستة وستين عاماً مضت ؟
سؤال قفز أمام بصيرة حامد كالعثور على جوهرة ضائعة أو حلّ مستحيل .
تفحّص السؤال بعمق . اكتشف أنه فعلاً كان ، فيما مضى ، يسعى للتعامل مع الله . إلى أين وصل مسعاه ؟
اكتشف أنه لم يكن يمارس رقابة كافية على تصرفات حامد الظاهر . كان يعامله معاملة رفيق أو صديق بل شقيق ، له حظوة ، وله مؤونة وحتى دالّة عليه .
على ضوء التعامل مع الله يمكن أن يلحظ أن حامداً الظاهر ، كان كثيراً ما يغفل عن هذه الصلة والميزان الحساس . ، فيقترف نفاقاً اجتماعياً ، أو يسرح ويمرح أحياناً في الطعام والشراب والثرثرات التي لا تخلو من الغيبة والنميمة وو ... ثم حامد الآخر ، كم قدّم من عبادات ونوافل وتسبيح واستغفار وصيام وقيام وتلاوة للقرآن ؟ !
صحيح أن حامد ، منذ سنّ الرشد ، دخل في طور المكابدات من مواجهات للخصوم والتحقيق والمنافي ومعاناة التأليف والطبع والنشر ، لكن هل كان كل هذا خالصاً لوجه الله تعالى ؟ كم كان حظ الشهوة ، وحظ الشهرة ، وحظ النفس منها ؟!
إن الله تعالى لا يقبل إلا العمل الخالص . هل كان كل ذلك خالصاً لوجهه الكريم ؟ أشكّ بذلك . ومن يملك الإخلاص التامّ ؟
شعر حامد الظاهر أن هذه المراجعة من حقّ حامد الآخر ، وإن كانت انصبّت عليه لوماً وتقريعاً . وهي العادة التي تعودها في التعامل مع شقيقه الأخر من زمن بعيد .
كان حامد الآخر يسعى للتعامل الخالص مع الله وحده ، لكن حامد الظاهر كان يؤجل أو يماطل أو يحجب ، أو ينشغل بتفاهات ، فإلى متى يبقى السعي مفتوحاً على الاحتمالات ؟ الآن يجب أن يتخذ قرار نهائيّ . كفّ يد حامد الظاهر ، وإنهاء صلاحياته السابقة في التعامل المنفرد مع الآخرين . الرقابة كاملة دائبة . الازدواج مرفوض . النفاق الاجتماعي مرفوض . التوجه الحثيث إلى الله ومع الله وفي سبيل الله وحده . غسلنا الماضي أم لم نغسله بدموع الندم . المهم صفاء ما بقي من المستقبل ، والاستدراك .
هل يمكن ذلك ؟
بل يجب .
بإذن الله تعالى يمكن أن نحقق ما نستطيع . لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ، بعد إفراغ الجهد إفراغاً حقيقياً .
شعر حامد بتحول مصيريّ ، تحوّلٍ حميد ، جاء قبل فوات الأوان .
المرض نقمة تحول إلى نعمة .
لم يعد يحس حامد بسقوطه في هوة سوداء سحيقة .