رقصتها الأخيرة
رقصتها الأخيرة
زياد خدّاش *
النور انطفأ، ابتلعه برد المدينة وطلقات غزاتها، في غرفة صغيرة داخل بيت كبير التصقت امرأة بيضاء وفتاة سمراء بزاوية جدار، التصقتا رعبًا من ليل طويل عاصف، وطلقات مجاورة لا تغادر ابدآ، النوافذ مفتوحة على مصراعيها، الريح تطّوح بالستائر ترميها داخل البيت حينًا وحيناً خارجه، المرأة والفتاة لا تجرؤان على اغلاق النوافذ خوفاً من طلقة طائشة، الغرفة ضيقة، المرأة لا تعرف الفتاة، فوجئت بها تدخل البيت الكبير الواقع على تلة عالية فجأة حين طاردتها الرصاصات وطاردت كل أشياء مدينتها، تشوشت أوضاع المدينة وحركة سكانها بفعل الاجتياح المفاجىء... الذين فاجأهم الاجتياح دخلوا اول بيت صادفوه في طريقهم، بعض البيوت رفضت فتح بيوتها خوفا من تبعات ايواء المطاردين، بيوت اخري اقتحمت من قبل الناس التائهين المذعورين، فاضطر أهلها إلى الترحيب بهمس وتوتر،
المدينة لم تعد مدينة، صارت سجناً جماعياً، والسكان لم يعودوا سكاناً، صاروا كائنات مطاردة دائخة، تتراكض من شارع الى آخر، من بيت الى بيت،
تغيرت معالم سكان المدينة، اختلطت أعمارهم وفئاتهم وهوياتهم، قد تجد اربع فتيات خجلات في بيت مهجور فاخر تواجد فيه شاب مطارد هو الاخر، وقد تجد امرأة واحدة في غرفة شاحبة لطلاب جامعيين، وقد تصادف رجلا عجوزا في بيت امراة مطلقة، تعيش مع ابنها الرضيع، وبالامكان سماع بكاء بنت صغيرة في غرفة معتمة لعجوز مخيفة العمى
و التجاعيد والغمغمات ...
مستشفيات المجانين ودور المسنين اقتحمت أبوابها, اختلط المجنون بالعاقل، والمسن
بالشاب, الأغنياء جلسوا على حصيرة الفقراء, الفقراء مرغوا عيونهم الفقيرة بفراش الاغنياء الدافيء المجرمون والفاسدون واللصوص والعملاء حشروا مع ائمة المساجد ورؤساء الاحزاب والمعلمين في غرف رطبة صغيرة,الكل صامت, لاقوة له ولا حول’ الدبابات والريح وحدهما من يتكلمان وبصوت عال.
الفتاة السمراء، طرقت باب اول بيت صادفها في طريقها الهائم على خطوات الراكضين ، لم يفتح الباب ، فاضطرت الى ركله وهي تصيح ، أطلت امرأة خائفة من وراء الستارة ، فتح الباب ، ، دخلت ...
الليل جاء يعرج بسره الدامي وغموضه ونهاره البعيد، ،سكتت الانفاس عن اللهاث المساجين، رضوا بقدرهم ، بلا نوم وبعيون واسعة وجامدة انتظروا النهار القادم،
لم تسأل المرأة والفتاة بعضهما البعض عن اسميهما او عملهما، في البداية لم تتكلما كثيرا، انكمشت كلاهما على سرها الخاص ومخاوفها الشخصية ، ا لتصقتا مقابل بعضهما البعض بجدار، غارقتين بعتمة غرفة باردة ،شفاههما تهتز ، ايديهما تبكيان، ووحدها الريح ترقص مع الستارة رقصة حب غريب ،
الطلقات لا تسكت، كأنها مذياع مفتوح نسيه شبان ماجنون أثناء رحلة ممتعة في غابة،
نهضت المرأة البيضاء تتلمس طريقها متكئة بيدها على الجدار، باتجاه المطبخ، لم تحرك السمراء ساكنا، بقيت جامدة تحدق في العتمة، عادت البيضاء بكأسي ماء، قدمت احدهما للسمراء، شربت السمراء الصغيرة،كأنها لم تشرب منذ عام ، جلستا بجانب بعضهما البعض ،استطاعتا الان ان تسمعا انفاس بعضهما البعض ، انفاس خافتة كأنها همس شجرتين وحيدتين ترثيان ورطة وجودهما على سفح جبل وعر وقاحل،
البرد ، الموت ، العتمة ، مدينة خرساء ، فتاة صغيرة وامراة ، الكتف تميل على الكتف الاخرى، الدبابة تميل بثقلها المروع على الجدران والسيارات و حيطان البيوت المحاذية للشارع العام ،،صياح أصحاب البيوت يختلط مع صياح الريح ، باطن اليد البيضاء على ظاهر السمراء، والرّكب تنحني باتجاه بعضهما البعض، الطلقات تدخل من النوافذ ، وتستقر في خزانة الثياب ، البرد لا يرحم، العتمة لا تهدأ، الريح متوحشة متوحشة متوحشة،
الخد الابيض على الخد الأسمر و كل يد تبحث عن الخلاص في اليد الاخرى.
كان يجب ان اكون هناك في حضن امي ففي احضان الامهات تخرس الطلقات وتذوب العتمة
امي مريضة قلب وقد تموت في أية لحظة بسبب قلقها على غيابي.. اليد البيضاء تمسد شعر الفتاة السمراء، كأنها تجيبها: انا امك، الدموع الصغيرة تتتجمع في حضن اليد البيضاء نقية ورشيقة وحارة تغسل البيضاء وجهها بدموع السمراء، الوجه الأسمر في حضن المراة البيضاء مغمض العينين، تائه، دبق وحزين، الانفاس تشتبك مع الانفاس، العيون الاربعة مغمضة... كان يجب أن أكون هناك في حضن زوج خانني وهرب مع صديقتي، عشرون عاما من الحب الكاذب وفجأة يهرب مع اعز صديقاتي دون تفسير، دون اعتذار.
فتحت الفتاة السمراء عينيها المندهشة على وقع دموع البيضاء الثقيلة، رفعت وجهها ودفنت راس السمراء بين نهديها الصغيرين، دوت رصاصة جديدة فوق رأسيهما مباشرة، صرختا التصقتا ببعضهما البعض اكثر، زحفتا على الار ض واندستا تحت لحاف ثقيل، جسد واحد، دموع واحدة، عتمة بداخل عتمة, أنفاس تختبيء في أنفاس أخرى،
لو ماتت أمي، وأنا بعيدة عنها سأموت بعدها مباشرة، على الاقل اكون بجانبها وهي تموت، ليس لي غيرها في هذا العالم، وليس لها غيري...
تركني زوجي لأني لا أنجب، قد يكون معه حق في الرغبة باولاد ولكن ليس بهذه الطريقة، فقط لو أنه اعتذر أو حضنني وهو يقرر...
رصاصة أخرى...التصاق أقوى... الوجه الأبيض مدفون في مجرى النهدين السمراوين، السمراء تحوط الرأس بيديها ، وهي تهمس : آه يا أمي كم أود أن أكون بجانبك الآن ، اعرف انك تموتين، سامحيني ، آه يا أمي...
البيضاء في فمها قطعة لحمية صغيرة تتلمظها، السمراء تتأوه,آه يا أمي
رصاصة أخرى... آه يا أمي
الأسنان تطبق على القطعة المذهولة التي افاقت الآن من سبات طويل، تشهق السمراء وتوشك على الموت، ولا تدري مالذي يحدث لجسدها، جيوش من النمل تمشي في اطرافها والرصاص لا يهدأ .
السمراء لا تعرف أن البيضاء كانت تكذب، فلا زوج هناك , لا صديقات، ولا أمل بأولاد, كيف للسمراء أن تعرف أن البيت الذي تتواجد فيه الآن ليس بيتاً عادياً ، وان المرأة البيضاء ليست صاحبةهذا البيت ’ هي نزيلة فيه مع عشرات النزيلات الضاحكات اللواتي هربن مع الريح الى المجهول مع انطلاق موسم الهرب,
البيضاء لم تهرب, لا احد يعرف لماذا...
هل شبعت هرباً ؟ إلى أين ستهرب لم يعد أحد يصدق أنها رسامة , لن تشفع لها معارضها في أوروبا, هل هي كذبة أخرى ؟ لا احد يصدق, حقائقها اختلطت مع أكاذيبها, صار لحياتها هدف احد : أن تفصل بينهما , اليدان البيضاوان تحوطان عنق السمراء الهش مثل رماد سيجارة ,السمراء تفتح عيينها على وسعهما مستغربة من قسوة الايادي البيضاء التي كانت حنونة قبل قليل , كانت يديّ أمها, تحاول السمراء أن تتملص..اتركيني أرجوك, أنت تخنقينني,
اليدان الغريبتان تشددان من قبضتهما على العنق المحاصرة, وجه البيضاء يتحول الى صخرة منحوتة بشكل غير متقن, وجه بارد وثقيل يتلقى أوامره من جهة غامضة, السمراء تصيح
آه يا أمي...
البيضاء امرأة اخرى الان, كائن غريب لا ينتمي الينا, كائن هبط خطأ من سماء أخرى,
عينا السمراء جحظتا، لسانها الصغير قفز الى الخارج مصعوقا... و ساكنٌ هو الجسد الأسمر الصغير ساكنٌ تماماً.
تجلس المرأة البيضاء أمام المرآة, ما أجملها! شعرها أسود لا تحده حدود, لا تفسره كتب, شفتان ممتلئتان, ذكيتان, عينان عميقتان, قادمتان من أول العالم, ما الذي فَعَلَته؟ أمجنونة هي...؟
انحنت على الجسد الأسمر تتحسس صمته.. انهضي يا فتاة انهضي ودليني على الطريق إلى المطبخ ' فأنا عطشانة.. ما هذه الأصوات الغريبة في الخارج؟ من الذي فتح النوافذ على مصراعيها؟ احد ما خان السقف والأرائك و الجدران وباع أسرارها للريح, من أطلق جنون الستارة؟ من؟ من؟ المرأة البيضاء تمشي بطيئة ومشوشة باتجاه النافذة المستباحة, لا أحد يعرف ما الذي تفكر به ,قبضت على الستارة المجنونة, عانقتها بقوة , همست لها بكلمات غريبة, أخذتها الستارة معها , طوّحت بها , مرة داخل الغرفة , ومرة خارجها
كانتا ترقصان رقصة حب غريب...
مدينة تضحك ، رجل صامت
نهار عادي ، هكذا بدا ، المدينة : سيارات ، مارة ، شمس طفلة ، تركض نحو شباب عنيف ، بيوت تنهض ، تجار يفتحون محلاتهم ، وانا ، ذاهب الى المقهى ، بيدي حقيبة كتب واوراق ، ولا شيئ غير عادي ابدا، بالعكس تماما ، فقد بدا هذا اليوم عاديا اكثر من اللزوم وهذا ما اخافني ، انا اخاف السكون الزائد عن الحاجة احس دائما ان ثمة ضجة ما تكمن بخبث خلف كل صمت ، لا دهشات في وجوه الناس ، لا تحفز لشيء ، لا قلق ، لا فرح لا ملامح ، جلست ، المقهى صغير ، هنا سانتظر طالبة جامعية لا اعرفها ، هاتفتني مساء امس لتتعرف مصادر الكوابيس ، وسر النهايات المسدودة في قصصي ، وضع النادل فنجاة قهوة امامي ، اخرجت كتابا ، بدات اقرأ وبين فقرة واخرى ، كنت ارتشف من فنجاني ، في لحظة ما انتبهت الى وجود ثلاثة شبان بجانبي ، لكني لم اعرهم اهتماما ، لم ابذل جهدا جسميا او ذهنيا لاراهم ، الكتاب مثير جدا ، من النوع الذي يهز اليقين ، كنت دائما اقول : ان قذيفة مدفعية تعجز عن انتشالي من كتاب يمتلك قابلية تغييري ، لكن ذلك كان محض شعار من شعاراتي الكاذبة ، التي ارفعها ، حماية لهيبتي ومكانتي ، انفجرت بجانبي ضحكة ضخمة ، صدرت من احد الشبان الثلاثة ، ضحكة مقززة من النوع الذي يقودك فورا دون ان تدري الى الاعتذار للمزهرية المجاورة ، او اللوحة المقابلة ، نيابة عن فظاظة البشرية ، التي تنتمي اليها انت رفعت راسي عن الكتاب ، نظرت الى الشارع ، المارة يتزايدون ، يموجون ، زعيق السيارات يتعالى ، الشمس كبرت ، صارت مراهقة الان ، سقطت في الكتاب من جديد ، عاذرا للشاب ضحكته المعادية ، التي قد يكون اجبر عليها ، فهناك اشياء كثيرة تضحك الى درجة الوحشية في هذا الوطن ، ثم انني ادعو دائما في كتاباتي ومواقفي الى حرية الصراخ و الجنون و الضحك والكتابة والجنس والحب والسفر ، فلماذا اناقض نفسي ؟ غارقا في نهر الصور و الكلمات كنت حين انفجرت ضحكة اخرى من شاب اخر ، على طاولة قريبة ، تنهدت ، نظرت الى الشبان الثلاثة ، كانوا يضحكون بشكل متواصل ، ضحك غريب ، خليط هو من بكاء ، استهتار ، توحش ، الم ، اجسامهم تتمايل على بعضها ، دموعهم تسيل ، ضحكات ، ضحكات ، ضحكات ، المقهى كله يضحك الان ، النادل نفسه يضحك مع احد الزبائن ، ورجل عجوز يضحك بلا اسنان مع رجل اخر ، نهضت ، تحركت باتجاه النادل ، وضعت امام الطاولة ثلاثة شواكل ، لم ينتبه النادل ، خرجت ، اخيرا خرجت من مقهى الضحك قلت لنفسي : هذه مدينة مجنونة حقا ،مشيت باتجاه ، لم احدده ، لم افكر الى اين سأذهب ، حتما ستتصل الطالبة ، ان لم تجدني في المقهى ، مشيت ، مشيت ، جلست على رصيف شارع متنزه البردوني ، اخرجت نفس الكتاب تركت نفسي اسقط فيه من جديد ، غبت عن الوعي فترة قصيرة ، انفجارات اخرى ، نظرت حولي ، كانت امرأة بدينة تضحك مع صديقتها بشراهة كأنها تقضم جدارا او تبلع مفرقا ، بعد برهة ، شاركتها صديقتها الضحك ، فاهتز الرصيف تحتي ، وتطاير ورق كتابي ، الغريب ان احدا من المارة وزبائن المتنزه لم يستهجن هذه الضحكات القاسية سواي ، هربت بعيدا ، مشيت على رصيف شارع مكتبة رام الله ، مرت عني سيارة تمشي ببطء ، بداخلها رجل وزوجته واطفاله الثلاثة ، كانوا كلهم يضحكون بصوت عال ، لدرجة ان السيارة اصطدمت بشجرة ، لكن ركابها لم يتوقفوا عن الضحك ، نزلوا الى الشارع ، تعالت ضحكاتهم ، ركضت هاربا ، نحو شارع المقبرة ، هناك مشيت بهدوء ، فالاموات لا يضحكون ، فتحت الكتاب ،و غطست ، لكن ضحكا مفاجئا ، مخنوقا ، قادما من داخل المقبرة ايقظ ذهني ، وجمد عقلي ، لم استطع التفكير ، اعتقدت اني احلم ، لكني كنت على يقين كامل اني لم اكن كذلك تحاملت على قدمي المنهارتين نحو شارع فرعي ، سقطت فوق راسي كحجارة كبيرة عشوائية الشكل ، ضحكات صاخبة لرجال خشنين جدا ، يجلسون في شرفة بيت ، حاولت ان اركض ، خانتني رجلاي ، سقطت على وجهي ، زحفت على بطني ، تاركا الحقيبة والكتاب ، الى اين امضي يا الهي ،؟؟ طوحت بجسدي وخوفي في شارع فندق روكي شارع هاديء ، انيق ،، كانت الشمس عمودية وقاتلة ، ولا احد في الشارع ، شعرت براحة كبيرة ، فلا بشر هنا ، مر امامي قطيع كلاب ، فاطمأن قلبي ، هذا يعني ان لا تهديد هنا ، لكن طمأنينة قلبي تمزقت ، امام ناظري وانا اسمع ضحكات الكلاب الادمية ، يا الله ، اغثني ، حتى الكلاب ؟؟؟ وجدت نفسي اصعد التلال المطلة على معتقل عوفر ، لاهثا ، متصببا عرقا ورعبا ، لماذا يضحكون ؟ مالذي يدفعهم لهذا الضحك الهستيري المزعج ؟؟ ، اه لو استطيع ان اشاركهم هذا الضحك ، انا احب الضحك ولكن ليس دائما ، وضحكي معقولة ضجته وهو خفيض وراقي ، هل هناك ضحك راقي ؟؟، احس ان الضحك العنيف هو الية دفاع غير واعية ضد عنف متوقع ، او خوف دائم من خطر ما ، يحسه الضاحك قادما لا محالة ، ولكن هل يعني هذا انني لا اعاني خوفا ما من خطر قادم؟ وانني خارج قانون النفس البشرية ، وخارج تأثير اوضاع البلد ،
لا ادري ، انا ادري فقط اني لا ارغب في الضحك مثلهم ، وتخيفني طريقتهم فيه ، سأبقى جالسا هنا في هذا الكهف القريب من قرية رفات ، سأنتظر الظلام ، لازحف ، متسللا الى بيتي ، مغلقا خلفي الباب ، ومقفلا اذني بقطن ثقيل ، كم هو طويل هذا اليوم !! وكم انت مراوغة ايتها الشمس العجوز !! ، على كتف موجة الظلمة الاولى اتكأت خارجا من كهفي ، مشوش الافكار ، غير قادر على فهم ما جرى ، المدينة شبه صامتة الان ، السيارات قليلة ، المارة قليلون ، هادئون ، رائع هو هذا المساء ، استعدت جزءا من ثباتي ، مشيت بخطوات قوية ، انا ذاهب الى غرفتي الان ، غرفة صغيرة ، تقع على طرف المدينة ، غدا سأبحث عن حقيبتي وكتابي ، التقيت صديقي في الطريق ، كان يقف على الرصيف منشغلا بحديث مع حببيته بهاتفه المحمول ، لم اتحدث معه ، وقفت بجانبه صامتا ، فقد عقدت معه صفقة عدم ازعاج مشتركة اثناء اتصال احدنا بحببتيه ، على الاخر ان يتحمل ، ويصبر صامتا اتأمل المدينة الذاهبة ببطء الى استرخائها الليلي فجأة انفجر صديقي بضحكات مروعة ، تشبه استغاثة ساخرة ، رأيت الدموع تسقط من عيون صديقي ، حتى انت يا صديقي ؟ ابتعدت عنه ، مشيت ، سمعت خلفي شخصا يقول : بالتاكيد اتصلت االطالبة على هاتفك االمحمول ، هو في الحقيبة الان يرن ، او لعله يضحك ، ها ها ها ها ها ها ، هاتف محمول يضحك ، بدل ان يرن ، يا لها من فكرة مضحكة ! هاهاها هاهاهاهاهاها ، بدأ الشخص يضحك بشكل هستيري ، لم يتوقف هاتف يضحك هاهاهاها ، تجمع الناس حولي ، كانوا يضحكون ، الكل يضحك ، بصوت عال ومخيف ، المدينة تمتليء بالضحكات ، الضحكات تسيل على الشوارع وتفيض على المفارق و المنحدرات ، خرج الناس من بيوتهم ، ضحكات ضحكات ضحكات ، هاتف محمول يضحك هاهاهاهاهاهاها ، هاهاهاهاهاها ، رايت نفسي اهرب مرة اخرى ، الشارع المؤدي الى غرفتي ممتليء بالضحكات ، اتجهت الى شارع اخر ، مشيت ، الضحكات تتدفق خلفي : هاتف محمول يضحك ، هاهاهاهاهاهاهاها ، اتكأت على جدار مبنى ، كنت الهث ، قلت لنفسي : لماذا لا اضحك مثلهم ؟
فعلا الفكرة مضحكة ، هاتف محمول يضحك ، هاهاهاهاهاها ، بدأت اضحك بصوت عال ، سكتت ضحكات المدينة ، سكتت تماما ، وجدت نفسي اضحك وحدي ، المدينة ساكتة ، ساكتة . ساكتة ، انا اضحك ، اضحك اضحك ، اضحك ..
* زياد خداش
ولدت في زهرة المدائن بوابة السماء ومنارة المدى القدس عام 1964م، ومن حيث انني قد تورطت في الحياة استمريت نحو الغوص عميقا في بحر المدن والشوارع والحارات والصفيح المقاوم لاشعة الشمس وغبار الامنيات ، درست حتى الثانوية في وطني الجميل ولانني لا احب الحدود فواصل الرحم ركضت جريا الى الاردن الهادئة ومن حليب جامعة اليرموك استقيت اللغة العربية اللذيذة حتى ارتويت وتخرجت منها في عام 1989م وبعدها سارت بي الخطى نحو بوابات المدارس حتى استقر امري في احد مدارس رام الله ومن هنا بدأت ....
كتبت القصة حتى كتبتني على الواح العمر بجهاته الاربعة وطبعت منها:
نوما هادئا يا رام في عام 1990
موعد بذئء مع العاصفة في عام 1994
الشرفات ترحل ايضا في عام 1998
وتحت الطبع( شتاء في قميص رجل)
ومازلت اسير على ادلاج الريح لحظة بلحظة ، انتظر مقهى الحياة لكي انهي شرب قهوتي السمراء تحت اضواء المدن التي تضحك من شدة الالم.