اختناق صباحي

اختناق صباحي

سامي العباس

[email protected]

- هذا الصباح أظنه يحمل شيئاً من الفرح.

كان من عادته التحدث إلى نفسه بصوت عال.. بل أحياناً كان يخرج رأسه الخرنوبي من النافذة ويباشر قذف الشارع تحته بشعارات تفوح منها نكهة السياسة.. لكنها أبداً تخرج على شكل دعايات ساخرة لصنف من معاجين الأسنان -وطني- أو لتبغ أمريكي فاخر.. أحياناً كان يفصح قليلاً. فيهتف ضد بينوشيت.. أو يعلن استنكاره لألوان حلة الإمبراطور بوكاسا الفاقعة..هذه المرة نبق برأسه من النافذة.. كانت أسطح البيوت بمداخنها.. وحبال غسيلها ونسوتها.. بأنفاسهن المضببة.. ونعاسهن المتقطر من أجفانهن الذابلة ترسم في هذا الصباح الباكر لوحة تثير داخله إحساسا حاداً بالحاجة إلى امرأة.. وقهوة صباحية.. وفراش مرتب..

ولكنه لم يطل النظر.. أغلق النافذة.. وباشر لبس ثيابه.. بدأ بالبنطال ثم تناول بزته العسكرية عن مسمار كان قد شنقها عليه منذ البارحة.. رمق شارة الرتبة.. ثمان وثمانون متهدلتان كشاربي تتري..

- تفو..

ثم ضحك باقتضاب..

- عاش جنكيز خان وليتمجد اسم السيد كارتر في الأعالي وعلى الشرق الأوسط السلام.

ثم أكمل لبس حذائه.. تخلل شعره بأصابعه.. فتل رأسه بحركة مباغتة لتتوضع الخصلات الأمامية فوق الجبين بشكل لائق كان وسيماً بعض الشيء. لكن سناً أمامية مكسورة وصدئة كانت تحيل ابتسامته إلى لافتة تبرز حطامه الداخلي.أغلق الباب بالمفتاح.

وبعد لحظة أصبح في الشارع. كان أمل ساذج يجره من أنفه عبر الأزقة الباردة.. (قد يلمحها خلف نافذتها فيتزود بابتسامة)..في المدة الأخيرة تحولت ابتسامتها إلى قهوة صباحية يحتسيها على الماشي. فتظل نكهتها تزوبع في حناياه طيلة يومه العسكري المتثائب.. عندما أصبحت ناصية زقاقها على بعد خطوات تريث لحظة ليستمتع بثواني الترقب وهي تخطو على إيقاعات قلبه المضطرب.

- تك.. تك.. تك..

ثم ولج الزقاق. كانت نافذتها مظلمة فارغة وكان كلب يغازل بخطمه كيساً من القمامة استند إلى زاوية الباب.وكمن في جنازة. سار مظلماً من الداخل. وأحس بالاختناق يأتيه من أقصى أظافر قدميه. يصعد عبر مسامات الجلد فيسدها واحدة واحدة عندها راح يحدث نفسه.

(نعم يا سيد.. دونك الموت البطيء.. تفرج عليه كرجل حيادي.. دعه يباشر التهام روحك.. ليترك جثتك تسير بالديزل.. إيه .... سلامات أيتها المشاعر الجميلة..

سلامات سيدة فيروز.. أنت الآن قطة مصابة بنزلة وافدة)..كان المازوت قد استعمر أسورة حلقه. وأصبح العالم قمقماً محشواً بثاني أكسيد الكربون.(عليك الآن أن تمارس سياسة دفش الأحلام السعيدة إلى قدام).. خاطب نفسه. وفجأة أفاق على وقع خطواته. كان بوطه العسكري الثقيل يقرع أرض الزقاق مذكراً بنفسه. كبت رغبة عارمة في خلعه وقذفه على أقرب نافذة ومضى يوغل في حديثه الداخلي.

(تفو.. يقتحم عليك أحلام اليقظة  تماماً كما أحلام منتصف الليل بوقاحة وبلا بطاقة دعوى).

كان مدخل الشارع الرئيسي قد أصبح على بعد خطوات. وكان الكلب قد وقف هناك مغضباً يهر.. عندها عاوده مزاجه الساخر. تقدم بإصرار وضرب بقبضته على صدره؟:

- ابتعد.. ابتعد.. أنا الرقيب المجند غازي..

وابتعد الكلب من الصياح وجاءت على أثره الزيل مائة وثلاثين.. وثب على سلمها الخلفي.. ثم دس نفسه بين البزات الكاكية الجالسة.

- صباح الخير حضرة الرقيب..

-...

- خير ما بك؟.. وجهك يقلب صحن الدبس..

- .. ..

- روِّح عن بالك حضرة الرقيب

- ....

- اليوم مناوب حضرة الرقيب؟

- ....

ولم تفلح كل المحاولات في جره إلى الحديث...

كان ظلام قد أطبق عليه من الداخل.. ذابت في بؤبؤيه الزجاجيين بيوت الصفيح المبعثرة على جانبي الطريق. حتى رجرجة الكبين المتقافز على الإسفلت المتآكل لم تكن تصل إلى نهاياته العصبية... كانت سياسة دفش الأحلام السعيدة إلى قدام قد وضعت موضع التنفيذ...