مراكب اللاموت

ثناء كامل أبو صالح

ثناء كامل أبو صالح

[email protected]

"أسميت حكايتي هكذا لأن الراكب فيها يتمنى الموت في لحظات الذعر, فلا يناله أحيانا "

سامحيني يا عائشة ..       

تتردد جملته في تلافيف عقلها, فترفع كفيها .. تضغط بهما على رأسها علها توقف تردادها إلى الأبد .. دون جدوى

سامحيني يا عائشة

علام أسامحك يا حبيب ؟؟ علامَ .. وقد عانيتَ الأمرّين إلى أن اختارك الله إلى جواره ؟ و.. يا ليتني كنت معك

وتنساب دموعها بصمت على وجنة تشققت من لهيب الشمس وملوحة البحر, فتكويها من جديد, وتبدو كأن لا شيء بعد اليوم يمكن أن يؤلمها, فلا ترفع كفا لمسحها

لا شيء يؤلم الجسد بعدما استقرت الآلام داخل الروح تمزقها ..تبعثرها.. ولولا رحمة الله لذهب العقل وراء من رحل

سامحيني يا عائشة .. أواه يا رب , أما من سبيل لنزع الذكرى من العقل المرهق ؟؟ تتلفت حولها, أغلب من في الحافلة نائم, حتى ابنتها الصبية ..ألقت برأسها في حجرها وأغفت, بعد أن هدها التعب والبكاء

وأسندت رأسها على حافة النافذة تتأمل الطريق الخضراء, ترى إلى أين تذهب بنا ؟ وماذا ينتظرنا بعد.. ونحن غريبتان وحيدتان في بلد غريب ؟؟

ما زالت تذكر أمها تودعهم وهم راحلون عن حلب , تمسح دموعها ولسانها يلهج بالدعاء, وتردد : / آه يا ابنتي ..قال شو رماك عالمرّ..قاله الأمرّ منو/

نعم هو هذا يا أم .. الأمرّ والأشق والأقسى .. تراني ألتقيك يوماً يا حبيبة ؟

ما كانت تظن أن الهجرة ستكون بهذه القسوة, منذ البداية عارضت زوجها في اتخاذ القرار, كانت حجتها : لسنا أفضل من غيرنا, من الأهل .. من الأحبة, ثم ..إلى أين نرحل ؟؟

ولكن.. لما كثف النظام من حملات التدمير والقصف والاعتقال والقنص والبراميل المتفجرة و .. الاغتصاب , وجاءتهم الأخبار السارّة من مصر, عاود زوجها إلحاحه : يا عائشة يعلم الله أني لا أخشى الموت علينا ..رصاصة قناص قذر, أم برميلا متفجرا يهدم البيت فوق رؤوسنا, لا .. شيء واحد أخافه, ويمسك بكتفيها يهزها بقوة تؤلمها ..شيء واحد لا يمكنني تحمّله, أنت وردينة.. عرضي يا عائشة..شرفي..

وتعلم أن هذا حق, وأنها تشاركه ذلك الخوف, فما زالت تذكر يوم رأت معه على اليوتيوب ذلك الرجل الحلبي يُسحل سحلاً على إسفلت الشارع شبه عار, بين أيدي جنود ساخرين قذرين يساومونه على عرضه ..ليس لإطلاق سراحه, بل ليرى أولاده فقط ويودعهم.. يعرضون عليه انتهاك عرضه مقابل ذلك .. ورغم ركله وتعذيبه وسبابه يصر على الرفض : أعوذ بالله ..زوجتي ابنة عمي .. عرضي .. شرفي .. تاج رأسي ..

يومها .. انتفخت شرايين رقبة زوجها وهو يغالب الدموع, وضرب بقبضته الجدار فأدماها وهو يردد : الكلاب .. الكلاب

 ولذا وافقت على الرحيل, ورحلوا ..

وضاقت عليهم دار الهجرة بما رحبت, فاتجهوا صوب البحر يبتغون بلداً يتنسمون فيه معنى الحرية بعد أن طال افتقادهم لها..

لما رأت المركب الخشبي القديم, انقبض قلبها وأمسكت بذراعه تهزه.. تسأله : بهذا سنبحر؟

وما كان بأحسن حال منها, لكنه رسم ابتسامة ميتة وقال : لا تقلقي, هي رحلة ساعات ست تروي شوقك إلى البحر ومائه؟ ألا تذكرين البدروسية, وكيف كنت تسعدين برحلة مراكبها الصغيرة؟ وتتمنين هياج البحر لتنالي شيئاً من رذاذه ؟

وهل هذا وقت مزاح ؟؟ بربك ألست قلقاً ؟

ويرد بجدّ : وهل نملك الخيار الآن ؟

وتصمت .. حقاً ما عدنا نملك الخيار, ولا اتخاذ القرار, هو قدرنا نُدفع إليه دفعاً وليس علينا سوى التسليم

وتذكر تدافع الناس في اعتلاء المركب وتزاحمهم على مقاعده وهو يترنح بهم, وكلما ظنته ما عاد يتسع.. أضيف إليه المزيد والمزيد, حتى امتلأت مقاعده تماماً,  واعتلى الآخرون حافته, ومن ثم انطلق ينوء بحمله نحو عرض البحر

 واحتضنت صغيرها بذراعيها واستقرت ابنتها بينها وبين زوجها الذي أحاطهم بذراعه, يمنحهم بعض الطمأنينة المفقودة, وانطلق لسانها يلهج بدعاء صامت .

لم تدر كم من الوقت مرّ والمركب يشق الماء بصعوبة والأمواج تتقاذفه, لكن المحرك الذي كان يهدر بصوته المزعج وينفث الدخان يلوث به الوجوه.. صمت فجأة, ليتعالى صياح المهرب وهو ينهر الركاب المتراصين قرب فتحته, يأمرهم بالابتعاد ليكشف علته, ويحاولون الابتعاد فيقع بعضهم فوق بعضهم, وترتفع الصيحات ممزوجة باللعنات, والمركب يهتز بهم يمنة ويسرة, ويتعالى الموج مرتطماً بالمركب المتداعي يتقاذفه في جوف الليل البهيم, وتزداد عائشة تشبثاً بصغيرها وهي تردد ما تحفظ من آيات وأدعية ..

الموج والخوف والقهر والظلم .. ظلمات بعضها فوق بعض ..وما لنا إلاك يا الله

وتحتضن عائشة بإحدى ذراعيها ابنتها تخفف من رعبها, بينما يشدد زوجها من احتضانهم هامساً : سامحيني يا عائشة ..

تراه أدرك أن اللحظة حانت ؟

ويتعالى صوت المهرب من جهازه يطلب النجدة .. ويعلو صياح الرجال وصراخ النساء وبكاء الأطفال ..لحظات ذعر لا تنسى, الظلام والبرد يشتدان, والموجة إثر الموجة تلطم الوجوه, وتعمي العيون

وينال التعب من الذراعين القويتين المحيطتين بأفراد الأسرة, فتتراخيان قليلاً, وترتفع موجة أخرى تلطمهم بقسوة فتسرق الصغير من الحضن الآمن وتهوي به في عرض البحر, وتقف عائشة دون وعي تبحث عنه, ليصرخ زوجها بصوت امتزج فيه الذعر بالألم : تمسكي بردينة أرجوك, سأذهب خلفه.. وقبل أن تعي تماماً ما يحدث صار وراءه في اللجة المضطربة

تذكر جيداً أنها كانت تتلفت حولها وتصرخ بكل قوتها : هل أمسكت به .. قل لي .. وتذكر أنها سمعت صوته .. وأنها رأت ذراعيه مرفوعتان وبينهما الصغير, قبل أن تتلقفهما موجة أخرى مجنونة.. وتتمعن في الظلام في لجة البحر الهائج تحاول أن تراهما من جديد.. لكنها لا ترى شيئاً

 ولم ترهما بعد أبداً, حتى ولا بين الجثث الهامدة التي لفظها الموج إلى الشاطئ 

ويزداد البحر عنفاً ومع لطم أمواجه المضطربة الهوجاء المركب, يتداعى جانبه ليسقط أول راكب في الماء فيرتفع العويل والصراخ ممتزجين بأصوات الدعاء والابتهال إلى الله ..

سامحيني يا عائشة .. آخر ما سمعته منه, وترفع كفها تمسح الدموع قبل أن تلامس وجه ابنتها فتوقظها من إغفاءتها.. وتمتد أصابعها تتحسس برفق وحب الوجنة النضرة .. أنت كل ما بقي لي يا غالية ..

وتتذكر الأصابع القذرة تمتد بوحشية وعنف إلى مئات الوجوه الغضة الندية المشرقة بنور الإيمان.. هناك حيث الوطن, حيث ما عدنا نملك الخيار في اتخاذ القرار .