شتاء في قميص رجل

زياد خدّاش *

مكان غريب، كأني اعرفه، هل اعرفه؟ ماسورة ماء ضخمة، ترتفع عن الارض مترين، تمتد من جبل الى جبل، بينهما واد سحيق، هذا مكان غريب، كأني اعرفه، هل اعرفه ؟ بقايا نفق مطمور حدائق عشب ناعم و شوك اصفر واخضر، شجر زيتون على سفح الجبل، بركة ماء قذرة، في الوادي شجرتا سرو ضخمتان ونوع اخر من الشجر لا اعرف نوعه،، صخور كثيرة، دغل خفيف، البيوت طا رئة على اطراف هذا المكان، المستوطنة التي على جبل لم تكن موجودة من قبل، انه اليوم الاول لي في هذه المدرسة الجديدة، منذ لحظة وصولي الاولى هنا، احسست اني كنت هنا، ولكن ما الذي يؤكد هذا الاحساس؟ لماذا لا يكون وهما من اوهامي؟ ألست انا سيد من تضيع فيه الامكنة، تنزاح الرؤى، وتتداخل الخارطات ؟ لا لالا لدي احساس مختلف هذه المرة، ثمة نداءات قوية وخفية، احسها تخطفني و تشربني، قادمة من اغصان الشجر والحصى والتراب والماسورة، مكان غريب، كأني اعرفه، هل اعرفه ؟ واد سحيق، اخر حدود المدينة، هناك ينبغي ان اتواجد صباح كل يوم، انيق الملابس، محتشم المخيلة والنظرات و الروح، مطلا من نوافذ الصفوف على روائح واصوات غامضة، كأنها تعرفني : روائح الماء الاسن في البركة، و التراب الذي يقفد عقله تحت قطرات المطر الاولى، صوت الماء، وهو يهدر في الماسورة الضخمة، صاعدا الى المستوطنة، قادما من مكان لا اعرفه، صوت الريح الخفيف وهو يهب بخشونة غامضة على اغصان شجر الزيتون، واقفا مع طلا بي، وطالباتي في رواق و ممرات الصفوف، هم يثرثرون ويتضاكون، وانا ساكت، مخترق الذاكرة، شريد الاحاسيس، دخلت الصف العاشر، طلاب وطالبات جدد، نوافذ واسعة تطل على المكان نفسه، كأنها مؤامرة، كأنها حلم، اجلس على الطاولة، الطلاب والطالبات صامتون باستغراب، ينتظرون كلامي المفترض عن اسلوبي في التعامل معهم، ترحيبي بهم ونصائحي لهم، المكان في الخارج يجيش بالذكريات والاحلام، والاسرار، وانا بين صمت الصف وصخب الامكنة، اتنفس بصعوبة، اقاوم رغبة في الركض نحو البيت .

طالبة في اخر الصف تبتسم بعذوبة لاتطاق، طالبة، بمريول اخضر، شعر اسود، شامة سمراء صغيرة على ذقنها، اه، تبتسم، تبتسم، ما الذي تريده هذه الصغيرة المبتسمة ؟؟ اقف فجأة، اتجه نحو النافذة الزجاجية الواسعة، العيون المستغربة، الايلة لسخرية خجولة تلاحقني، لا اكترث لها، اواصل تحديقي ، احس رأسي يرتاح على الزجاج، عيناي مغمضتان، دوار خفيف يستولي علي، ساقاي يتقوسان،

- استاذ : استرح قليلا انت ترشح بالعرق .

- ليستدع احدنا المدير،

اصحو على همسات قريبة، باب يفتح و يغلق، كأس ماء و يد الطالبة الصغيرة، المبتسمة توقظ كتفي الرخوة، الجرس يرن، جلبة رعناء تنفجر في المدرسة، اهرب الى المكتبة، اغلق الباب خلفي اغلق بوابة العالم، كفأر بائس، مطارد ووحيد، فقد الثقة بكل جحور الارض، وخانته عتمات الزوايا، اندس في شقوق حنيني القديم، اتسلل الى جرحي في عز الضجة، عز الوضوح، تهرع النافذة الي عيني، الامكنة نفسها، من زاوية اخرى، هنا هنا بالضبط بجانب سور المدرسة، كنت امشي معها ومعه، الى تلك التلة العالية، في اصياف بعيدة، حرة ومجنونة،

طفلان في العاشرة من عمرنا، بنت حلوة في الحادية عشرة، كنا نسكن حيا مجاورا، نأتي هنا في عطلات المدارس، نتسلق الشجر، نرمي بعضنا البعض بالحصى والثمار، نصعد على الماسورة ونترك اجسادنا تسحل، وحدها حتى تصل اخر الوادي كنا نصيح و الريح تصيح معنا،، نسبح في البركة القذرة، تصعد التلة، ونلهث نلهث نلهث، اسمي زياد، اسمه سامر، اسمها هيفاء،

كان هو وسيما جدا،،كنت انا عاديا جدا، كانت هي ساحرة و غامضة، كأنها صدى الوادي او كبرياء الجبل، كأنها هدير الماء في الماسورة، هل كنا نحبها معا ؟؟، هل ننسى ملمس باطن قدمها وهي تطبقهما على باطن اقدامنا ؟؟ ؟ في لعبة غريبة ابتكرتها هي، يهزم فيها من لا يستطيع تحمل لذة تلامس بواطن الاقدام، مرة من المرات جلسنا معها على العشب، فاجأتنا بحديث غريب،

 - - حين اصبح بنت كبيرة سأواظب على المجي هنا، انا احب هذا المكان عندما اتزوج سأخبر اولادي عنه ، هل ستأتيا ن معي ؟

- طبعا سنأتي، ومعنا اولادنا وزوجاتنا،

- نظرت هيفاء الى سامر نظرة غريبة، تحسست شعره الناعم، وقالت بما يشبه الهمس :، انا احب ملمس شعرك، انه يشبه الانزلاق على الماسورة بسهولة،

ثم حولت نظرها الى مبتسمة ومتألمة وقالت بما يشبه العتاب، اما انت يا زياد فلا احب ان المس شعرك لانه يشبه دخولي حافية القدمين في حقل شوك هاهاهاهاها،،

منذ تلك الظهيرة الحارة وانا اتحسس حقل الشوك فوق رأسي واقترب كثيرا من البكاء، ما زلت حتى اليوم اتردد كثيرا في تمشيطه خوفا من جراح قد تصيب اصابع يدي، فاتركه هكذا لايام طويلة امام دهشة اهلي، حيرة اصحابي وامتعاض مديري، بعد عشرين عاما من ظهور حقل الشوك هذا، سأصدم، وأتعجب حين يسر لي صديقي الوحيد، ضاحكا ذات مساء صيفي تائه : ان صديقته قالت له حين رأتني : صاحبك مش حلو، شعره زي الخواتم، واتبعت ذلك بضحكة هزت المدينة، صديقي لم يعرف ان صديقته ايقظت داخلي صورة هيفاء وهي تنظر الى وجهي متألمة : شعرك يا زياد يشبه حقل شوك لذالك فلن المسه . اقتحم ابي غرفتي هائجا وصارخا : مشط شعرك : مثل الخلق، لقد فضحتنا، عاما بعد عام، ساظل اشعر ان ثمة جراح في راسي، جاهزة لانقضاض على اي اصابع تقترب، ساهرب من البيت، والجأ الى جبل قريب، انام في احدى طياته، وسيأتي ابي متسللا،على اطراف اصابعه، مع اعمامي واخوتي، يلقون القبض على مرضي يجروني جرا الى الطبيب، هناك في رطوبة عيادة صامتة بلا رواد، سيقول لى الطبيب : انظر الى شعري، انه يشبه شعرك، تحسسه يا بني، لن تصاب يداك بجراح، صدقني لن تصاب، سأنشب شعري في جلدة رأسه وسينفجر شلال دم صغير،

هيفاء الجالسة تحت شجرة سرو تقول لنا ضاحكة ولذيذة :

- لن اقول لكما من الاروع، من الاجمل، من الذي سأتزوجه، ساكتب ذلك في ورقة،واصعد لاخبئها تحت حجر هناك اعلى التلة، اياكما ان تتبعاني، سأضع الورقة هناك واهرب الى البيت ستصعد هيفاء رشيقة كاسطورة، ورقيقة كحكاية ليل شتوي طويل ترويها جدتي الطاعنة في شبحيتها، تهبط هيفاء، وتغادر راكضة وسعيدة الى بيتها، سنركض انا و سامر نحو التلة، لاهثين، ومجنونين، كأن كنزا بانتظارنا، او مشنقة، على السفح، وقبل القمة بقليل، سنسمع صوت طلقات، وسنرى جنودا غاضبين، يهبطون الجبل ركضا نحونا من التلة، سنتراجع مذعورين، وسنبكي طويلا، طويلا، ونحن في الطريق الى البيت، في الصباح، ستأتي جرافات ضخمة، تحفر اساسات مستوطنة اسرائيلية، سنراقب من بعيد الجرافات، وهي تحفر قي جلودنا، كارثة اسمها ضياع ورقة هيفاء، اهالينا يتحسرون على الجبل المسروق، ونحن نتحسر على ورقة صغيرة، هيفاء اختفت منذ ذلك اليوم، رحل اهلها عن المدينة، ذهبوا الى مدينة اخري بعيدة .

طرقات على باب قاعة المكتبة، طرقات ناعمة، الصغيرة المبتسمة امامي،

- استاذي، اريد ان استعير كتابا اتسلى به الليلة، فبعد وفاة امي وابي لم يعد في حياتي سوى الرسم والقراءة،

الصغيرة المبتسمة تتجول بعينيها ويديها على رفوف المكتبة، اشعر بها تقترب مني

 - استاذي انا احب هذا الوادي كثيرا، امي كانت تلعب هنا، حدثتني عن النفق والشجر والبركة والماسورة والجبل والورقة وسامر، واخر نسيت اسمه، يحمل على رأسه حقل شوك،

- قالت لي ايضا -- -------

مصعوقا اهرب من قاعة المكتبة يداي تقطرات دما ، الصغيرة ما زالت تبتسم

               

* ولدت في زهرة المدائن بوابة السماء ومنارة المدى القدس عام 1964م، ومن حيث انني قد تورطت في الحياة استمريت نحو الغوص عميقا في بحر المدن والشوارع والحارات والصفيح المقاوم لأشعة الشمس وغبار الامنيات ، درست حتى الثانوية في وطني الجميل ولانني لا احب الحدود فواصل الرحم ركضت جريا الى الاردن الهادئة ومن حليب جامعة اليرموك استقيت اللغة العربية اللذيذة حتى ارتويت وتخرجت منها في عام 1989م وبعدها سارت بي الخطى نحو بوابات المدارس حتى استقر امري في احد مدارس رام الله ومن هنا بدأت ....

كتبت القصة حتى كتبتني على الواح العمر بجهاته الاربعة وطبعت منها:

نوما هادئا يا رام في عام 1990

موعد بذئء مع العاصفة في عام 1994

الشرفات ترحل ايضا في عام 1998

وتحت الطبع( شتاء في قميص رجل)

ومازلت اسير على ادلاج الريح لحظة بلحظة ، انتظر مقهى الحياة لكي انهي شرب قهوتي السمراء تحت اضواء المدن التي تضحك من شدة الالم.